التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المصافحة بعد الصلاة

بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد: فإن الإسلام قد حرص على إشاعة روح الصفاء والإخاء بين الأفراد، بما يحقق لهم كل ما من شأنه إحداث الود والسعادة في الدنيا ليعود هذا على دينهم حبًّا وتنمية لكل ما يقرب إلى الله سبحانه، فيسعدوا في الدارين؛ ولهذا فقد شرع الله فضيلة إفشاء السلام بين المؤمنين، وجعل هذا الصنيع علامة على الحب في الله ولله، ورتب على هذا تحقق الإيمان ثم دخول الجنة. فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»، وأخرج الترمذي بسنده عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا
الجنة بسلام». هذا فضلا عن أن الإسلام جعل المصافحة من تمام التحية؛ فقد أخرج الإمام الترمذي بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تمام التحية: الأخذ باليد»، وأخرج أبو داود بسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله -عز وجل- واستغفراه غفر لهما»، وأخرج أيضًا عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترَّقا»، وأخرج الترمذي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا»، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: «لا»، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم». * حكم المصافحة: المصافحة سنة، ويندب إليها عند التلاقي؛ وقد أجمع على هذا كافة الفقهاء في جميع الأعصار والأمصار، جاء في «الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار»: «اعلم أنها سنة مجمع عليها عند التلاقي». وقال المناوي: «فإن المصافحة سنة مؤكدة». وقد أوضحت كثير من الأدلة مشروعيتها واستحبابها؛ وبالإضافة إلى ما سبق ذِكره من أدلة نقول: - أخرج البخاري بسنده عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «...حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس حوله الناس فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة...». - وأخرج أيضًا بسنده أن قتادة رضي الله عنه قال لأنس بن مالك رضي الله عنه: «كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم». - أجمع الفقهاء وأئمة المذاهب على مشروعية المصافحة، وأنها سنة؛ وفي هذا يقول الإمام النووي عن المصافحة: «اعلم أنها سنة مجمع عليها عند التلاقي». وقال ابن بطال: «...المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك». وجاء في «فتح الباري» قول ابن حجر: «قال ابن عبد البر: روى ابن وهب عن مالك: أنه كره المصافحة والمعانقة؛ وذهب إلى هذا سحنون وجماعة. وقد جاء عن مالك جواز المصافحة؛ وهو الذي يدل عليه صنيعه في «الموطأ»، وعلى جوازه جماعة العلماء سلفًا وخلفًا». ومن الجدير بالذكر هنا: أن أول من حيَّا المسلمين بالمصافحة هم أهل اليمن؛ وفي هذا يروي أنس بن مالك رضي الله عنه قوله: لما جاء أهل اليمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جاءكم أهل اليمن؛ وهم أول من جاء بالمصافحة». وفي رواية أخرى: «قد أقبل أهل اليمن؛ وهم أرق قلوبًا منكم». قال أنس: «وهم أول من جاء بالمصافحة». والمراد من مجيئهم بالمصافحة: إظهارهم لها في الإسلام. وقد روى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقدم عليكم غدًا أقوام هم أرق قلوبًا للإسلام منكم»، فقدم الأشعريون، فيهم أبو موسى الأشعري، فلما دنوا من المدينة جعلوا يرتجزون يقولون: غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وحزبه. فلما أن قدموا تصافحوا؛ فكانوا أول من أحدث المصافحة. أي: أظهروها في الإسلام. * المصافحة بعد الصلاة وأما المصافحة عقب الصلاة فإنها أيضًا مشروعة، وهي دائرة بين الإباحة والاستحباب؛ لأنها داخلة في عموم استحباب التصافح بين المسلمين. واختار الإمام النووي في «المجموع» أن مصافحة من كان مع المصلي قبل الصلاة مباحة، ومصافحة من لم يكن معه قبل الصلاة سنة. وقال في «الأذكار»: «اعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به؛ فإن أصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال وفرطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها».اهـ. ثم نقل عن الإمام العز بن عبد السلام أن المصافحة عقيب الصبح والعصر من البدع المباحة. وقال السفاريني في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: «ظاهر كلام العز بن عبد السلام من الشافعية أنها بدعة مباحة، وظاهر كلام الإمام النووي أنها سنة. قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: «قال النووي: وأصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال لا يخرج ذلك عن أصل السنة». اهـ. وفي فتاوى الرملي الشافعي: «سئل عما يفعله الناس من المصافحة بعد الصلاة هل هو سنة أو لا؟ فأجاب: بأن ما يفعله الناس من المصافحة بعد الصلاة لا أصل لها، ولكن لا بأس بها». اهـ. وأما ما ذهب إليه بعض العلماء من القول بكراهة المصافحة عقب الصلاة فإنهم نظروا فيه إلى أن المواظبة عليها قد تؤدي بالجاهل إلى اعتقاد أنها من تمام الصلاة أو سننها المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا بالكراهة؛ سدًّا لذريعة هذا الاعتقاد، ومنهم من استدل بترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الفعل على عدم مشروعيته، ومع قول هؤلاء بكراهتها فإنهم نصوا -كما ذكر القاري في «مرقاة المفاتيح»- على أنه إذا مد مسلم يده إليه ليصافحه فلا ينبغي الإعراض عنه بجذب اليد؛ لما يترتب عليه من أذى بكسر خواطر المسلمين وجرح مشاعرهم، وذلك على سبيل المجابرة، ودفع ذلك بجبر الخواطر مقدم على مراعاة الأدب بتجنب الشيء المكروه عندهم؛ إذ من المقرر شرعًا أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. على أن جمهور العلماء ومحققيهم على ترك التوسع في باب سد الذرائع؛ لما يجر إليه من التضييق على الخلق وإيقاعهم في الحرج، والاستدلال بالترك على عدم المشروعية موضع نظر عند الأصوليين؛ بل الأصل في الأفعال الإباحة، هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصافحة الصحابة الكرام له وأخذهم بيديه الشريفتين بعد الصلاة في بعض الوقائع، ففي صحيح الإمام البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ، ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم. قال أبو جحيفة: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك». قال المحب الطبري : «ويستأنس بذلك لما تطابق عليه الناس من المصافحة بعد الصلوات في الجماعات، لا سيما في العصر والمغرب، إذا اقترن به قصد صالح من تبرك أو تودد أو نحوه» اهـ. وعموم مشروعية المصافحة في مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله عز وجل واستغفراه غفر لهما»، لا يجوز تخصيصه بوقت دون وقت إلا بدليل؛ و«إذا» ظرف لكل ما يستقبل من الزمان، فدعوى أنها مخصوصة بغير أدبار الصلوات المكتوبات دعوى لا دليل عليها، بل ورد في السنة النبوية الصحيحة ما يردها. وعلى ذلك: فإن المصافحة مشروعة بأصلها في الشرع الشريف، وإيقاعها عقب الصلاة لا يخرجها من هذه المشروعية، فهي مباحة أو مندوب إليها -على أحد قولي العلماء، أو على التفصيل الوارد عن الإمام النووي في ذلك- مع ملاحظة أنها ليست من تمام الصلاة ولا من السنن التي نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المداومة عليها بعد الصلاة. وعلى من قلد القول بالكراهة أن يراعي أدب الخلاف في هذه المسألة ويتجنب إثارة الفتنة وبث الفرقة والشحناء بين المسلمين بامتناعه من مصافحة من مد إليه يده من المصلين عقب الصلاة، وليعلم أن جبر الخواطر وبث الألفة وجمع الشمل أحب إلى الله تعالى من مراعاة تجنب فعل نقلت كراهته عن بعض العلماء، في حين أن جمهورهم والمحققين منهم قالوا بإباحته أو استحبابه.