التصوف ليس هروباً من واقع الحياة كما يقول خصومه , وإنما هو محاولة للإنسان للتسلح بقيم روحية جديدة تعينه على مواجهة الحياة المادية ’ وتحقق له التوازن النفسى حتى يواجه مصاعبها ومشكلاتها , وبهذا المفهوم يصبح التصوف إيجابياً لا سلبياً , مادام يربط بين حياة الإنسان ومجتمعه (1) .
ويوضح الشيخ المربى د على جمعة الخطوات التى يتبعها السائرفى الطريق إلى
اللهحتى لايخرج من حالة التوازن النفسى والطمأنينة التى عليها المؤمنون , منها : التفكر فى خلق السموات والأرض , وكلما تفكر الإنسان فى خلق السموات والأرض , أيقن بوحدانية الله , وأيقن بوجوده سبحانه وتعالى وبعظمته وبجلاله.
وفى كل شيئ له آية تدل على أنه الواحد
كلما تدبر استصغر نفسه , ووجد أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس , وكلما تأمل فى حقائق الدنيا عرف أنها حادثة , كانت ولم تكن من قبل , وعرف أنها فانية , وأنها إلى زوال , وأن الإنسان سوف يموت.
كلما تأمل الموت عرف حقيقة الدنيا , وأنها تافهة قليلة , وعرف أنها مزرعة للأخرة, وأنها وجدت للإبتلاء والعمل , كلما تدبر فى ذلك هانت عليه الدنيا.
فالفكر إذاً , والتدبر , والنظر فى مخلوقات الله فى السموات والأرض والتأمل والتعقل , كل ذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى به فى الكتاب الكريم , وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك شياطين تصد الناس عن النظر إلى السماء ( إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولى الألباب , الذين يذكرون الله ) (2).
فبرزت هنا قضية الذكر , فهما إذاً قضيتان , أولهما : الفكر , وثانيهما : الذكر (3) .
ثم يعلنها الشيخ الداعى إلى الله على بصيرة من ربه فى قوة حاسمة وفى نطق صادق لمن يريد النجاة فى طريقهإلى مولاه:
اقصد فى مشيك ... وليكن الله سبحانه وتعالى مقصودك
وسر فى طريقك....؛ لا تلتفت... ! مقصودك أمامك..!
سر على بركة الله ولا تلتفت؛ فإن ملتفتاً فى طريق الله لايصل! (4) .
نصح الشيخ عبد السلام بن بشيش تلميذه الشاذلى بقوله : ( ياعلى إنما خير لك أن تقول : كن لى, ولا تقل : سخر لىقلوب خلقك أى عبادك , فإذا كان لك كان لك كل شيئ ) (5) .
وهاهو الإمام الشاذلى رضى الله عنه يشخص الداء ويصف الدواء فيقول:
أسباب القبض ثلاثة : ذنب أحدثته , أو دنيا ذهبت عنك , أو شخص يؤذيك فى نفسك أو عرضك , فأن كنت أذنبت فاستغفر , وأن كنت ذهبت عنك الدنيا فارجع إلى ربك , وأن ظُلمت فاصبر واحتمل , هذا دواؤك , وإن لم يطلعك الله تعالى على سبب القبض فاسكن تحت جريان الأقدار , فأنها سحابة سائرة(6) .
قال الشيخ أبو العباس المرسى: كنت مع الشيخ الشاذلى فى السفر ، ونحن قاصدون الإسكندرية حين مجيئنا من الغرب ، فأخذنى ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله ، فأتيت إلى الشيخ أبى الحسن ، فلما أحس بى قال: أحمد ، قلت نعم يا سيدى ، قال: آدم خلقه الله بيده ، وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته ، ثم نزل به إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله تعالى: (إنى جاعل فى الأرض خليفة(7) .
ما قال فى السماء ولا فى الجنة فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة ، لا نزول إهانة ، فإنه كان يعبد الله فى الجنة بالتعريف ، فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف ، فلما توفرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفته.
وأنت أيضاً لك قسط من آدم كانت بدايتك فى سماء الروح فى جنة التعريف ، فأُنزلت إلى ارض النفس لتعبده بالتكليف ، فإذا توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة ، وزال ضيق أبى العباس وأنشرح صدره(8) .
فإذا أدرك العبد ما وراء البلاء من حسن العاقبة وقابل الشدائد بالرضاوالصبر _ تحقق له ما وعد الله به الصابرين من جزيل الثواب بغير حساب , بل إن العبد إذا راض نفسه فى كل نازلة وشدة _ انتقل من حال الصبر إلى حال الرضا , وتحول من الصبر على البلاء إلى الشكر لله , لأنه حينئذيرىالنقمة نعمة , والمحنة منحة يرفعه الله بها إلى مقام الصابرين الشاكرين , وإذا رضى العبد بما ابتلاه الله به رضى الله عنه فيكون من المقربين (9) .
يقول الشيخمحمد زكى الدين إبراهيم : الصوفى هو المسلم المحمدى , الواصل العامل , أى المسلم النموذجى , أى المسلم فى أرقى المستويات الخاصة والعامة , ونسبته إلى التصوف إنما هى لمجرد التخصيص والتعريف فى المحيط الإسلامى العام ( 10) .
يقول ابن عطاء الله السكندرى: شكوتإلى شيخى أبى العباس المرسى ما أجده من هموم وأحزان ، فقال: أحوال العبد أربع لا خامس لها: النعمة ، والبلية ، والطاعة ، والمعصية ، فإن كنت فى النعمة فمقتضى الحق منك الشكر ، وإن كنت بالبلية ، فمقتضى الحق منك الصبر ، وإن كنت بالطاعة فمقتضى الحق منك شهود منته عليك ، وإن كنت بالمعصية فمقتضى الحق منك وجود الإستغفار.
فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوباً نزعته ، ثم سألنى بعد ذلك بمدة: كيف حالك ؟ فقلت: أفتش عن الهم فلاأجده ، فقال:
وظلامه فى الناس سارى ..... ليلى بوجهك مشرق
م ونحن فى ضوء النهار .... والناس فى سدف الظلا
إلزم فوالله لئن لزمت لتكونن مفتياً فى المذهبين, فى علوم الظاهر وحقائق الباطن ، ولازم ابن عطاء الله أستاذه أبا العباس المرسى (11)
وتعتبر حكم ابن عطاء الله السكندرى بمثابة ( علامات مرور ) فى طريق السير إلى الله تعالى , فيقول ابن عطاء الله السكندرى:
( لا يخرج الهوى من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق) .
ويقول أيضاً : ( لاتصحب من لا ينهضك حاله , ولا يدلك على الله مقاله)
قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : ليس الشأن من تطوى له الأرض فإذا هو بمكة أو غيرها من البلدان , إنما الشأن من تطوى له صفات نفسه فإذا هو عند ربه (12) .
فمن أنزل حوائجه بالله والتجأ إليه وتوكل فى أمره كله عليه , كفاه كل مؤنة , وقرب إليه كل بعيد , ويسر عليه كل عسير , ومن سكن إلى علمه , وعقله , واعتمد على قوته وحوله , وكله الله إلى نفسه , وخذله وحرمه توفيقه , وأهمله فلم تنجح مطالبه , ولم تيسر مأربه, وهذا معلوم على القطع من نصوص الشريعة وأنواع التجارب لذا يقول ابن عطاء الله السكندرى:
( ما توقف مطلب أنت طالبه بربك , ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك ) (13) .
التصوف بصورة عامة يخاطب وجدان البشر ويهتم بتهذيب سلوكهم وترقيق مشاعرهم , وترقية أرواحهم . ومن هنا يأتى التصوف ليحافظ على قوى النفس جميعها , فهو يحقق التوازن النفسى والإعتدال , فيقى بذلك الإنسان من الخوف والقلق والاهتزاز.
والمجتمع المسلم فى أمس الحاجة إلى ما يمكن تسميته "بالنموذج الصوفى" لأن كل شيئ من حولنا يهتز ويخور والقيم الأخلاقية آخذة فى الإضمحلال , والشباب حين يفقد القوة يندفع تحت تأثير الإحباط نحو الجريمة.
--------------------------------------------
مصادر ومراجع البحث:
------------------------
(1) د أبوالوفاء الغنيمى التفتازانى : مدخل إلى التصوف الإسلامى ص ج ( دار الثقافة للنشر والتوزيع , الطبعة الثالثة) .
(2) سورة آل عمران , آية : 190-191.
(3) د على جمعة محمد : الطريق إلى الله ص 50 ( طبعة الوابل الصيب للإنتاج والتوزيع , المقطم , القاهرة) .
(4) د على جمعة محمد : التربية والسلوك ص 417( طبعة الوابل الصيب للإنتاج والتوزيع , المقطم , القاهرة) .
(5) أبو على بن الكوهن الفاسى : طبقات الشاذلية الكبرى ص 24 ( دار الكتب العلمية , بيروت ,لبنان , الطبعة الأولى 2001 م) .
(6) ابن عباد : المفاخر العلية ص 14 ( مطبعة الحسين الإسلامية) .
(7) سورة البقرة , آية : 30.
(8) ابن عطاء الله السكندرى : لطائف المنن ص 56 ( دار الحسين الإسلامية , تحقيق : د حسن جبر شقير , القاهرة) .
(9) الشيخ عبد المقصود محمد سالم : راحة الأرواح ص 13 ( الطبعة الثامنة , الشمرلى للطباعة) .
(10) الشيخ محمد زكى إبراهيم : البداية ص 211 ( طبعة دار نوبار للطباعة , الطبعة السادسة 1998م).
(11) ابن عطاء الله السكندرى : لطائف المنن ص 77 ( دار الحسين الإسلامية , تحقيق : د حسن جبر شقير , القاهرة)
(12) ابن عجيبة : إيقاظ الهمم فى شرح الحكم ص 317 ( الطبعة الثالثة , 1982م, مطبعة مصطفى البابى الحلبى , القاهرة) .
(13) ابن عباد : غيث المواهب العلية فى شرح الحكم العطائية ج1 ص 110 ( طبعة دار المعارف , تحقيق : د عبد الحليم محمود , د محمود بن الشريف) .للدفاع عن التصوف والصوفية بالسودان