رجل من عظماء السودان وإفريقيا الأفذاذ، الذين أسهموا في الحياةالدينية والاجتماعية والسياسية، من خلال وساطته في حل كثير من قضايا السودان، ومن خلال بساطته وتواضعه وحبه للناس غنيهم وفقيرهم دون تمييز أو قبلية، فدعوة الشيخ عبد الرحيم بدأت في قرية «الزريبة» ولكنها ما لبثت أن عمت كل السودان من غربه إلى شرقه ومن شماله إلى جنوبه.
الاسم والنسب:
هو الشيخ عبد الرحيم ابن الشيخ محمد وقيع الله، أما البرعي فهو لقبه الذي اشتهر به من خلال قصائده.
المولد والنشأة:
- وُلد الشيخ عبد الرحيم محمد وقيع الله في قرية «الزريبة»، التابعة لمحافظة «بارا»، في ولاية «شمال كردفان» بالسودان، جنوب غرب الخرطوم على بعد نحو 300 كلم تقريبًا.
وكان ميلاده في عام 1923م، من أب ينتمي لقبيلة (الكواهلة)، القاطنة في ضواحي(المناقل) بقرية الشيخ عبود النصيح، وأمه: هي الرسالة بنت عبد الرحمن، من قبيلة (الجعليين)، تنحدر من سلالةالشيخ سلمان العوضي المشهور بـ«ضواحي شندى».
- يتصل نسبه بالصحابي الجليل الزبير بن العوام رضي الله عنه، كما تنحدر إحدى جداته من سلالة العارف بالله الشيخ عبود النصيح.
- تفتحت عيناهعلى هذين الأبوين الصالحين، ونشأ في بيت ملأه التصوف والتقوى والصلاح، وعاش في هذهالبيئة المفعمة بحب الله تعالى، وعشق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
- سُمي بالبرعي تيمنًا بالشيخ عبد الرحيم البرعي اليمني، الذي أصدر قصائدَ عديدة في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم.
- نشأ في كنف والده الذي كان عالمـًا بارعًا، فجلس على يديه لدراسة العلم والتصوف ، وكان والده قد أخذ الطريقة القادرية السمانية على يد الشريف الشيخ عمر الصافيابي شيخ «الكريدة»، وأمره الشيخ بالعودة إلى «الزريبة»، وأن يقوم بتعليم الشعائر الدينية وتحفيظ القرآن الكريم،فعاد إلى بلده، وأسس مسجد الزريبة في عام 1900م.
وبهذا أخذ الشيخ الطريقة السمانية عن والده بسنده إلى الشيخمحمد بن عبد الكريم السمان المدني.
بعد وفاة والده في عام 1944م، تولى الخلافة وعمره إحدى وعشرون عامًا، واجتهد في التوسع في الدعوة، وبنى مسجدًا ومكاتب لتحفيظ القرآن بـ«الزريبة»، وبدأ طلاب القرآن يتوافدون عليه.
السيرة العلمية
قرأ القرآن على يد الشيخ ميرغنى عبد الله من أبناء قبيلة (الجعليين)، تحت إشراف والده الشيخ محمد وقيع الله. كما قرأ على يد كبار علماء عصره، وكانتتأتيهأمهات الكتب من كبرى دور النشر بالقاهرة وبيروت ودمشق، وكان وقتها يطبع اسم مالك الكتاب أدنى الغلاف بماء الذهب.
ثم تحول إلى دراسة علوم الشريعة والطريقة على يد والده ، الذي اهتم برعايته، فكان يأمره بقراءة المتون، ويستوقفه فيكل كلمة تحتاج إلى شرح، حتى استوعب مجمل العلوم الشرعية، من التفسير، والحديث، والسيرة، والفقه، واللغة العربية، وعلم الكلام ... وغيرها من العلوم، ولم يقف الشيخ البرعي عند ذلك؛ بل أضاف إلى معارفه ذخيرةكبيرة من العلوم الأخرى، وذلك بمداومته على أمهات الكتب، ويظهر ذلك في أشعاره التينجد فيها أسلوب الاقتباس البلاغي لشتى أنواع المعارف.
هذا وقد لزم دروس والده ومجالس عظاته طيلة حياته؛ فقد كانت للشيخ محمد وقيع الله حلقة درس يومية يؤمها جميع تلامذته.
شيوخه:
والده الشيخ محمد وقيع الله .
الفقيه الشيخ ميرغني عبد الله، وغيرهم.
أثره في المجتمع
اهتم الشيخ البرعي بحركة الإصلاح الاجتماعي -كما هو شأن المتصوفة في كل مكان- وكرَّس كلَّ حياتِه لذلك، وبفضل مجهوداته تحولت «الزريبة» من قرية صغيرة ليس بها أي نوع من الخدمات، إلى مدينة صغيرة تجمع كل الخدمات الضرورية للإنسان من تعليم، ومستشفى، وعدد من آبار المياه الجوفية، كما أقام بها مصنعًا للزيوت النباتية، وأضيفت لهذه الخدمات خدمة الاتصالات التليفونية الثابتة والمتحركة، كما نشطت المنطقة عمومًا بحركة تجارية واسعة، واتسعت حركة النقل عبر الباصات والشاحنات، تجوب الأرض من وإلى «الزريبة»، وإلى كل مدن السودان، إضافة إلى الطيران الخاص.
هذا، وقد صارت «الزريبة» مركز إشعاع ديني وروحي فيالسودان، وقبلة لجميع السودانيين.
وكما اهتم الشيخ البرعي بحاجات الإنسان المادية، فقد اهتم أيضًا بقضاياه المعنوية والمشاكل النفسية التي تعتريه، وفي هذا الشأن نجد الشيخ البرعي من أوائل المصلحين الذين أدركوا ضرورة إقامة الزيجات الجماعية لإحصان الشباب وتزويجهم؛ درأً لمشاكل العُنوسة والعُزوف عن الزواج، وقد أقام الشيخ أول زواج جماعي بـ«الزريبة» في عام 1963م بواقع 163 زيجة، وكان المهر وقتها عشرة جنيهات للبكر وخمسة للثيب.
وامتد جهده في هذا الشأن حتى قبل وفاته بأشهر قليلة، حيث عقد خمسة آلاف زيجة تقريبًا في مهرجان واحد.
هذا ولم تزل هذه السُنَّة الحميدة ممتدة حتى الآن، حيث أقام خليفته الشيخ الفاتح مهرجانًا تم فيه تزويج أربعة آلاف زيجة.
وللشيخ إسهامات كبيرة في مؤتمرات الصلح الأهلي بين القبائل المتناحرة والجماعاتوالأفراد.
كان –رحمه الله- رجلًا محبوبًا عند كل أهل السودان بمختلف أجناسهم، وكان مثالًا للتوحد، لم يطلب الشيخ البرعي المناصب ولم يسع لها؛ لذلك كان شخصية محبوبة حتى انتقل إلى جوار ربه بعد كثير من الابتلاءات، وكان رافضًا للاستعمار، ويوقر مكانة شيوخ الطرق الصوفية في السودان وغيرهم، وكان مثالًا للتواضع، حتى إن مجلة «العالم الإسلامي» كتبت عنه موضوعًا بعنوان: الشيخ البرعي مدرسة منهجها التواضع.
ويعتبر الشيخ البرعي زعيمًا روحيًّاأرسى بنهجه الإسلامي الكثير من التقاليد السمحة، سواء عبر ندواته، أو أشعارهالصوفية، أو مؤلفاته أوخطبه الدينية ... إلخ.
جهوده الدعوية
اهتم الشيخ البرعي بنشر الدعوة الإسلامية في كل أنحاء السودان، حيث أقام عددًا من المراكز الدعوية في مدن عديدة في السودان، شملت الشرق والغرب والجنوب والشمال والعاصمة القومية، منها على سبيل المثال: مراكز «الخرطوم»، و«أم درمان»، و«بورت سودان»، و«الأبيض»، و«ود مدني»، و«سنار»، وغيرها، إضافة إلى مركز «الزريبة» الذي يعد منبعًا ومنطلقًا لكل هذه المراكز التي تقوم بتحفيظ القرآن الكريم، ونشر علوم الدين والدعوة إلى الله.
وللشيخ البرعي مشاركات خارجية على المستوى العربي والعالم في المؤتمرات والمناسبات الدينية.
مؤلفاته:
- أول دواوينه «بهجة الليالي والأيام في مدح خير الأنام».
- ثمديوانه الثاني «رياض الجنة نور الدجنة» الذي صدرت منه الطبعة الأولى عام 1967م وصدرالجزء الثاني 1991م.
- ديوان «مصر المؤمنة».
- ديوان «ليك سلام مني».
- ديوان «بوريك طبك».
- ديوان «الصحابة».
- ديوان «هداية المجيد».
- ديوان «الطلع النضيد».
- ديوان «سيد هوازن».
- ديوان «الجوهر الأسنى».
- «هداية المجيدفي علوم الفقه والتوحيد».
- اهتم مركز «الأسباط» بتوثيق حياة الشيخ وحركته الدعوية؛ فقام بتسجيل محاضراته ودروسه وخطبه على أشرطة الكاسيت، تحت عناوين:
1- قد أفلح المؤمنون.
2- الذكر في حياتنا.
3- محمد رسول الله.
4- المال الصالح.
5- نفحات المولد.
رحلاته:
تتميز رحلات الشيخ عبد الرحيم إلى خارج السودان بأنها جاءت فـي إطار تلبية الدعوات للمريدينالمنتشرين في شتى بقاع المعمــورة، وذلك باستثناء رحــلاته إلى الأراضـــــــيالمقدسة التي يقوم بها سنويًّا لأداء مناسك العمرة.
وكانت زياراته عامرة بلياليالذكر والمدائح النبوية والأحاديث الدينية التي تدعو إلى مكارم الأخـلاق، والتحليبآداب الدين، ومقاصد الشريعة الإسلامية.
حرص الشيخ في رحلاته على أن يهتم بزيارة الأنبياء والأولياء والصالحين ، امتثالًا لقول القائل:
اذكر حديث الصالحين وسمهم * * فبذكرهم تتنزل الرحمـــات
واذكر كراماتهم تنل بركاتهم * * وقبورهم زرها إذا هم ماتوا
فحينما زار الشيخ مصر حرص على زيارة سيدنا دانيال عليه السلام، وفي العراق زار مقام الإمام علي كرم الله وجهه، وبقية مقامات آل البيت، ومقام الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكتب قصيدة يمدحه فيها، زار مقـــام سيدنا معروف الكرخي، وذكـــر للمــرافقين له أنالدعاء مستجـــاب عند مقامه، وزار مقام سيدنا نوح عليه السلام.
وفي المغرب قام الشيخ بزيارة الشيخ أحمد التجاني مؤسس الطــــريقة التجانية، في مقامه الكائنبمدينة «فاس»، وقد كتب فيها قصيدة يمتدح بها هذا الشيخ ويعــدد مناقبه، حيثقال:
شدوا الرحال إلى مدينة فاس ** لمقام سيدنا أبي العباس
شمس المعارف والمكارم والتقى ** نجم الهداية وابن خير الناس
باب الوصال لكل صب سالك ** نهج النبي المصطفى النبراس
قد أشرقت أرض الحجاز به كما ** نارت به أرض الرباط وفاس
وفي الأردن، قام بزيارة الأمـــاكن الأثرية والمقامـــات، ومنها: مقام سيدنا شعيب عليهالسلام، ومقام سيدنا يوشع بن نون عليهالسلام، ومقام أصحاب الكهـــــف، وواديسيدنا موسى عليهالسلام، وكانت هذه آخـــر زيارة للشيخ خارج السودان.
قالوا عنه:
- قال عنه المفكر السوداني الدكتور حسن مكي:
جمع البرعي بين الأدبوالرزانة ودماثة الخلق والصبر على الناس والقدرة على تحمل ضغوطهم وخفف عن كثيرمن الخلق كثيرًا من معاناة هذه الحياة بأشعاره وأعماله، واستطاع أن يجدد أرواحالكثيرين ويربطهم برباط الدين.
- وقال عنه الكاتب الصحفي السوداني عبد اللطيفالبوني:
أسهم الشيخ البرعي في بناء الأمة السودانية، وكان رمزًا من رموزالوطنية، لم يكن يتعصب لمذهب أو طريقة, يجامل الناس في الأفراح والأتراح,ولم يكن يميل إلى السياسة, إلا أنه احتفظ بعلاقات وصلات طيبة مع كل الساسة الذينعرفهم, وكان يوجد حوله دائمًا كل ألوان الطيف السياسي.
- قال عنه الشيخ صادق عبد الماجد -المرشد العام للإخوان المسلمين بالسودان:
إنفقده فقد أمة؛ لأنه لم يكن شخصًا واحدًا وإذا كانت أعمال الناس تقاس بأعمارهم، فقدقدم البُرعي أعمالًا مضاعفةً آلافَ المرات وقدم فكرًا نظيفًا، وأنشأَ معاهدَ العلم، وقرَّب الناس من مفهوم الإسلام الصحيح المرتبط بالله ورسوله الكريم, الذي أبرزهالشيخ البرعي في صورة حببته إلى جميع الناس، وجعلتهم يريدون التقرب منه عن محبة, لقد كان أستاذًا للسودان شيبه وشبابه ومثقفيه وعامته.
- قال عنه ياسر عرمان -الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان: إنحركته تنظر للشيخ البرعي بتقدير كبير, وإن زياراته لمفاوضات السلام في «نيفاشا» بـ«كينيا» كانت دافعًا حقيقيًّا ومعنويًّا للوصول إلى اتفاقية السلام.
- يقول عبدالعزيز حسن صالح -القنصل السوداني بالقاهرة، الذيرافق الشيخ خلال رحلته للعلاج بالقاهرة:
كان يأسر الناس بتواضعه وحديثهالسهل الممتنع، وتعبيراته التي تحمل معان كبيرة بأبسط الألفاظ، كان قلبه ومقرهمفتوحين للجميع.
- نعاه الشيخيوسف القرضاوي، فقال:
فقدت الأمة الإسلامية شيخًا جليلًا ورعًا يداوي الناس بالعفةوالطهارة, ذا قلب وروح قوية، استطاع أن يؤثر في عشرات الآلاف.
كان الشيءالكبير عنده الوطن, ذهب إلى مقر المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبيةعلى الرغم من مرضه, وقابل جارانج وأعضاء حركته, الذين قابلوه بود وتقدير كبيرين.
الأنواط والأوسمة:
قام عدد من الجهات الرسمية والمؤسسات بتكريم الشيخ البرعي، فقد:
- منحه الرئيس السوداني وسام العلوم والآداب والفنون من الطبقة الأولى، وكان ذلك في عام 1991م.
- ومنحه الرئيس المصري نوط الامتياز.
- كما مُنح درجة الدكتوراه الفخرية من عدد من الجامعات السودانية، منها: جامعة أم درمان الإسلامية، والجزيرة، والنيلين، وكردفان.
- حصل على شهادات تقدير من مختلف المؤسسات والجهات التعليمية والتنفذية.
وفاته:
انتقل الشيخ عبد الرحيم البرعي إلى الرفيق الأعلى يوم عاشوراء 1426 هـ الموافق 19/2/2005م رحمه الله تعالى.
للدفاع عن التصوف والصوفية بالسودان