التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأدلة على التوسل والاستغاثة بالأموات



لابد لنا قبل الخوض في ذكر الأدلة على التوسل والاستغاثة بالأموات من الإجابة على أسئلة ثلاثة قد تتبادر إلى أذهان كثير من الناس وهي:
1-    هل الموتى أحياء في قبورهم فنتوسل بهم؟
2-    وهل يسمعون توسلنا وهم في القبور؟
3-    وهل يستطيعون إثاثتنا ونفعنا وهم قد انتقلوا إلى الحياة البرزخية؟ 
الجواب عن الأسئلة الثلاثة (نعم) إنهم أحياء في قبورهم يسمعون توسلنا ويقضون حوائجنا والأدلة على ذلك كثيرة: 
1-    منها قوله تعالى ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عن ربهم يرزقون﴾([1][72]).
2-    وقوله تعالى ﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون﴾([2][73]).
فدلت الآيتان على حياة الذين يقتلون في سبيل الله والقتل في سبيل الله عام يشمل الشهادة في الحروب وفي غيرها كما دلت الأحاديث والآثار على ذلك ثم إذا كان هذا حال الشهداء فماذا يكون حال الأنبياء عامة وحال نبينا خاصة وقد جمع الله له بين الشهادة والنبوة؟ لا شك انهم أدنى بهذه المزية منه. 
3-  ومنها قوله تعالى ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾([3][74]) فقد قال الحافظ ابن كثير رضي الله عنه عن تفسير هذه الآية:
(... وقد ورد أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ). 
4-  ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون»([4][75]).
5-  ومنها حديث أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «أفضل أيامكم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يقولون بليت فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»([5][76]). 
6-  ومنها حديث الإسراء المتواتر الذي ورد من طريق بضع وأربعين صحابيا([6][77]) وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم بهم جماعة وأن سيدنا آدم وغيره من الأنبياء دعوا لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن سيدنا موسى عليه السلام طلب منه العودة إلى ربه ليطلب منه تخفيف الصلاة عنا حتى خففها الله من خمسين صلاة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة فهذا كله دليل حياتهم في دار البرزخ أي القبر بل وحريتهم في الانتقال من مكان إلى آخر ودعاء سيدنا آدم وإرشاد
سيدنا موسى لأمر تخفيف عدد الصلوات دليل نفعهم لنا وهم في الحياة البرزخية . 
7-  ومنها حديث سيدنا أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: »إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم([7][78]). 
8-  ومنها حديث سيدنا أبي طلحة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قام على القليب قليب بدر وفيه قتلى المشركين فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان ابن فلان قال: إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟! فقال سيدنا عمر يا رسول الله: ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟! فقال رسول الله  صل والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما اقول منهم([8][79]) وهذا قسم منه صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم يسمعون كلامه. 
9-  ومنها حديث سيدنا عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن امتي السلام»([9][80]). 
10-  ومنها حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد السلام»([10][81]). 
والسلام هو الأمان فهو يدعو للمسلم بالأمان إذا يلحق به النفع وهو في قبره صلى الله عليه وآله وسلم ويرد على الحديث إشكال وهو أن ظاهره أن عود الروح إلى الجسد يقتضي انفصالها عنه وهو الموت وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة: 
1-    المراد بقوله (رد الله علي روحي) أن رد روحه كانت سابقة عقب دفنه لا أنها تعاد ثم تنزع ثم تعاد.
2-    سلمنا لكن ليس هو نزع موت بل لا مشقة فيه.
3-    المراد بالروح الملك الموكل بذلك. 
4-    المراد بالروح النطق فتجز فيه من جهة خطابنا بما نفهمه. 
5-  أنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى فإذا سلم عليه رجع اليه فهمه ليجيب من سلم عليه. وقد استشكل ذلك من جهة أخرى ، وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة والسلام عليه في أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الأخرة والله أعلم انتهى كلام الحافظ بحروفه([11][82]). 
11-  ومنها حديث سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت الله لكم»([12][83]) فهذا صريح في أنه صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لأمته وهو في الحياة البرزخية والاستغفار دعاء تنتفع منه الأمة الإسلامية جمعاء. 
12-  ومنها حديث سيدنا أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لاتمتهم حتى تهديهم كما هديتنا». 
وفي رواية عن جابر رضي الله عنه : «إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم في قبورهم فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك»([13][84]) وهذا دليل نفع الأموات من غير الأنبياء. 
13-  ومنها حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه عن سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: »والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضن المال فلا يقبله أحد حتى لئن قام على قبري فقال: يا محمد لأجبته([14][85]): وفي قوله لأجبته دلالة ظاهرة على سماعه إياه.
14-  ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «ما من أحد يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام»([15][86]). 
15-  ومنها أحاديث السلام على الموتى عند المرور بهم: كحديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا ذهب إلى المقابر يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية([16][87]). 
فلولا حياة الموتى في قبورهم وصحة سماعهم لم يكن لهذه الخطابات أي معنى ولكانت بمثابة مخاطبة الجمادات. 
16-  ومنها حديث سيدنا جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :«إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه فإنهم يتزاورون في قبورهم»([17][88]).
17-  ومنها حديث سيدنا أبي أمامة عندما مر به سعيد الأودي أو الأزدي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة فقال له : يا سعيد إذا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس القبر ثم ليقل : يا فلان بن فلانة فلإإنه يسمع ولا يجيب – أي لا يستطيع الجواب- ثم ليقل: يا فلان بن فلانة المرة الثانية فإنه يستوي قاعدا ثم ليقل يافلان ابن فلانة المرة الثالثة فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون... الخ»([18][89]). 
وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير ما نصه : قوله: ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن وحديث التلقين إسناده صالح وقد قواه الضياء في أحكامه([19][90]).
18-  ومنها حديث الرجل الذي ضرب خباءه ليلا على قبر فسمع من القبر قراءة ﴿تبارك الذي بيده الملك﴾([20][91]) إلى آخرها فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (هي المانعة هي المنجية)([21][92]).
19-  ومنها ما قاله سعيد بن عبدالعزيز: (لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا ولم يقم ، ولم يخرج سعيد بن المسيب من المسجد وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([22][93]). 
20-  ومنها ما رواه نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه)([23][94]). 
21-  ومنها ما ثبت أن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأضع ثيابي وأقول إنما هو زوجي وأبي فلما دفن عمر معهما فو الله ما دخلت إلا وأنا مشدودة حياء من عمر([24][95]). 
22-  ومنها قول سيدنا أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته : (بأبي أنت وأمي يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين)([25][96]). 
23-  ومنها ما ثبت عن سيدنا شيبان بن جسر عن أبيه أنه قال: (أنا والله الذي لا إله إلا هو أدخلت ثابتا البناني في لحده ومعي حميد الطويل فلما سوينا عليه اللبن سقطت لبنة فإذا أنا به يصلي في قبره)([26][97]). 
24-  ومنها قول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن الورح ومداى قوة تصرفها وانتقالها بعد انفصالها عن الجسد فقد ذكر رضي الله عنه في كتابه الروح ما نصه: ففلروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ وسرعة الصعود إلى الله تعالى والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه فإذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواتها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكية كبيرة ذات همة عالية فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر. 
وقد تواترت الرؤيا في أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا يقدر على مثله حال اتصالها بالدبن من هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين والعدد الققليل ونحو ذلك وكم قد رؤي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم فإذا بجيوشهم مقلوبة مكسورة مع كثير عددهم وعددهم وضعف المؤمنين وقتلهم([27][98]). 
ويقول أيضا: فهي أي الرؤى على كثرتها وانها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أرى رؤياكم قد تواطأت([28][99]) على أنها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كانت كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه أو استقباحه ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح([29][100]) ويقول صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وأنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء خصوصا بموسى وقد أخبر بانه (ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله روحه حتى يرد عليه السلام إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وغن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة فإنهم احياء موجودون لا نراهم([30][101]) .
ويقول: السلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم.
25-     وقد سئل الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذه المسالة فأفتى بما يؤيد ذلك([31][102]).
26-  ومنها: قول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في مرقاة الصعود: تواترت بحياة الأنبياء في قبورهم الأخبار. 
وقال في إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء ما نصه( حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا قطعيا لما قام عندنا من الأدلة في ذلك وتواترت بها الأخبار الدالة على ذلك). 
27-  ومنها قول الإمام السخاوي رضي الله عنه يحكي الإجماع على ذلك فقد قال بعد سرده الأدلة على عرض الأعمال عليه صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وغيرها ما نصه:
السادسة: يؤخذ من هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي على الدوام وذلك أنه محال عادة أن يخلو الوجود كله من واحد يسلم عليه في ليل ونهار ونحن نؤمن ونصدق بانه صلى الله عليه وآله وسلم حي يرزق في قبره وإن جسده الشريف لا تأكله الأرض والإجماع على هذا وزاد بعض العلماء الشهداء والمؤذنين وقد صح أنه كشف عن غير واحد من العلماء والشهداء فوجدوا لم تتغير أجسامهم والأنبياء أفضل من الشهداء جزما. 
28-  ومنها قول الإمام السبكي في شفاء الأسقام: وأقول إن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جائز في كل حال: قبل خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة .
29-     ومنها ذكر ابن حزم للإجماع أيضا في كتابه المحلى. 
30-  وتأليف البيهقي لجزء خاص يثبت فيه حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم وغيرها من الأقوال التي سنتطرق اليها إن شاء الله عند ذكر أقوال العلماء في التوسل والاستعانة . 
ومما قد يرد على حياة الأموات في قبورهم وسماعهم للأحياء قول الله عز وجل ﴿وما أنت بمسمع من في القبور﴾([32][103]) لكن هذه الآية دليل على أن الكفار المصرين على الباطل لن ينتفعوا بالتذكير والموعظة فهم غارقون في قبور كفرهم وعنادهم محجوبون عن نور الهداية والإيمان كما هو حال الموتى الذين في القبور وأنهم لن ينتفعوا بما يسمعونه من التذكير والموعظة فهذا مؤول لا يحمل على الظاهر والدليل عليه قول الله عز وجل ﴿إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولو مدبرين﴾([33][104])، والأموات لا يولون مدبرين بعد العظة والتذكير وإنما المراد بذلك الكفار. 
يقول الإمام الطبري في تفسيره:
إنك يا محمد لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلبه فأماته، لأن الله قد ختم عليه أن لا يفهمه.
﴿ولا تسمع الصم الدعاء﴾ يقول: ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصم الله عن سماعه سمعه.
﴿إذا ولوا مدبرين﴾ يقول: إذا هم أدبروا معرضين عنه لا يسمعون له لغلبة دين الكفر على قلوبهم ولا يسغون للحق ولا يتدبرون ولا ينصتون لقائله لكنهم يعرضون عنه وينكرون القول به والاستماع له([34][105]).
ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره مثل الحي والميت)([35][106]).
وإن قيل قد ثبت في الحديث أن الميت إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث... فكيف نثبت للميت النفع والتأثير ولو كان المقصود أنه مجرد واسطة؟
فالجواب : أن المعنى المقصود هنا هو أنه انقطع الثواب والنفع الذي كان يحصل عليه الميت مما كان يعمله هو بنفسه من صلاة وصيام وغير ذلك من الأعمال لأن هذه الأعمال قد توقف عنها بعد الموت إلا ما يصله من صدقة جارية كان عملها أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ولا يعني بانقطاع عمله أنه لم تعد له قدرة على فعل شيء بعد الموت لما مر من الأدلة والحجج.
ثم من اعتقد أن لأحد من الخلق تأثيرا في الحياة ينقطع عنه بانتقاله إلى البرزخ ففي عقيدته شيء من إشراك العبد لله في الأفعال والتأثير فليس لأحد من الخلق تأثير ذاتي ولا قيام له بنفسه وحولهم وقوتهم بالله تعالى هو يجري على أيد خلقه ما يشاء من المقادير في حال حياتهم الدنيوية وكذ1لك الأمر في حال الحياة البرزخية والأخروية فلو كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ليغره تأثير في حياته كما توهم بعض القاصرين لصح نفيه عنه بعد انتقاله ولجاز حينئذ سؤاله ونداؤه في حياته فقط أما ما دام لا تأثير له في حياته الدنيوية كذلك لا تأثير له بعد انتقاله إلى الحياة البرزخية والله تعالى أجرى بحوله وقوته على يديه الخير في حال حياته الدنيوية هو الذي يجري على يديه بعد انتقاله ومن الذي يقيد الله تعالى ويوجب عليه أن يفتح على أيدي خلقه في حال حياتهم الدنيوية ولا يفتح على أيديهم في حال انتقالهم إلى حياة أخرى برزخية أو أخروية؟!
فالتوسل حكم مقرر جوازه من احكام الشريعة المطهرة ومعمول به في عصره لا يتغير بانتقاله عليه الصلاة والسلام كما لا تتغير بقية أحكام التشريع فلا يحق لإنسان ان يقول: هل الوضوء جائز بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وهل الصلاة جائزة بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وهكذا ومثل ذلك قولهم: هل التوسل جائز بعد موته عليه الصلاة والسلام؟!
لأنها جميعا أحكام شرعية مقررة بأدلتها ومعمول بها في حياته وبعد انتقاله([36][107])، فلو أجزنا التوسل بالحي دون الميت لجعلنا للحي نوع تأثير دون أن نشعر وهذا خلاف عقيدة الإسلام.
وقد مر معنا  في بداية باب التوسل أن المتوسل لا يعتقد أن للمتوسل به أي تأثير من خير أو نفع إلا ما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجازا عندما قال: .. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإنهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كبته الله عليك([37][108]). فأثبت لهم النفع والإضرار وحصره ضمن إرادة الله ومشيئته فالمتوسل به إذا لا يتصرف بنفسه في قضاء حاجة المتوسل حتى يحول موته دون ذلك وإنما هو يسعى بالشفاعة عند الله تعالى في قضاء تلك الحاجة.
وإنه لم يرد نص واحد يثبت أن الله ينزع من أنبيائه وأوليائه المكانة والجاه بعد انتقالهم إلى عالم البرزخ.
أما الآن وبعد أن تبين لنا يقينا مما مر من الأدلة أن الأنبياء والأولياء أحياء في قبورهم يسمعون توسلنا بهم ويستطيعون بقدرة الله التي أعطاهم إياها أن يغيثونا ويكونوا سبب نفع لنا رغم انتقالهم إلى الحياة البرزخية إجابة عن الأسئلة الثلاثة الماضية فننتقل إلى ذكر الأدلة على التوسل والاستغاثة بالأموات:
1-  عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسلو الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دفن فاطمة بنت أسد أم سيدنا علي رضي الله عنهما : (اللهم بحقي وحق الأنبياء من قبلي اغفر لأمي بعد أمي)([38][109]).
2-  وعن سيدنا أبي الجوزاء أوس بن عبدالله رضي الله عنه قال(قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبيلى فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال: ففعلوا فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق)([39][110]).
3-  وعن مالك الدار وكان خازن عمر قال أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله (وفي رواية يا محمداه استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره بأنكم مستقيون وقل له : عليك الكيس فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه)([40][111]). 
4-  وعن سيدناعثمان بن حنيف رضي الله عنه : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضثي في حاجة له وكان عثمان رضي الله عنه لا يلتفت اليه ولا ينظر في حاجته فلقيه الرجل فشكا ذلك اليه فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فيقضي حاجتي وتذكر حاجتك فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذه بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة([41][112]) وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة ثم قال ما كانت لك حاجة فائتنا ثم إن الرجل لما خرج من عنده لقي عثمان بن حنيف وقال له جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت الي حتى كلمته في فقال عثمان ابن حنيف والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا اليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أو تصبر؟ قال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ائت الميضاة فتوضأ ثم ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات فقال عثمان بن حنيف فو الله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط([42][113]). 
5-  ومن الأدلة على جواز التوسل بانبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته : القياس على جواز التبرك بآثاره المنفصلة في حال حياته وبعد مماته فلقد ثبت في أحاديث صحيحة وردت في الصحيحين أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم كانوا يتبركون بشرعه وأم سليم تأخذ من عرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتضعه في زجاجة وكلما نقص زادته ماء وغيره من الأدلة التي ستمر معنا إن شاء الله في باب التبرك فبقيت إذا آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته كدواء يتشفى به بإذن الله عز وجل. 
وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن الذي انفصل من أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته ثم بقي إلى ما بعد وفاته يأخذ الحكم وهو جعله سببا للشفاء أو التبرك والمسبب هو الله وحده يأخذ هذا الحكم ذاته بعد وفاته أيضا. 
فمن باب أولى ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاهه الكريم عند الله عز وجل فإنه لم يتبدل ولم يتغير ولم يبل ولم يخلق فالأنبياء أحياء في قبورهم يصلون والأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وهذا ما قاله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وعليه الإجماع كما مر معنا.
6-  وعن الهيثم بن خنيس قال: كنا عند عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فقال له رجل: اذ1كر أحب الناس اليك فقال: يا محمد فكأنما نشط من عقال.
وعن عبدالرحمن بن سعد قال( خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل اذكر أحب الناس اليك فقال محمد )([43][114]). 
7-  وذكر الحافظ ابن كثير خلال كلامه عن وقعة اليمامة ما نصه : (وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه حتى جاوزهم وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل اليه فيقتله ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا البزار وقال: أنا ابن الوليد العود أنا ابن عامر وزيد ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ (يا محمد)([44][115]) .
8-  وها هو سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام يتوسل بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد روى سيدنا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فقال الله تعالى يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب إنك لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق اليك فقال الله تعالى صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق الي وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولو لا محمد ما خلقتك)([45][116]). 
9-  وها هو سيدنا معاذ رضي الله عنه يتذكرقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أرسله إلى اليمن : «فعلك تمر بقبري ومسجدي»([46][117])  فيأتي إلى قبره صلى الله عليه وآله وسلم ويبكي أمامه وإذا بسيدنا عمر يراه فيقول له : ما يبكيك ؟ فيقول سيدنا معاذ حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «اليسير من الرياء شرك»([47][118]). 
10-  وروى الخطيب في تاريخه عن علي بن ميمون رضي الله عنه أنه قال : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة أجيء إلى قبره في كل يوم يعني زائرا فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما يبعد عني حتى تقضى وقد صح وبسند صحيح توسل الإمام الشافعي بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنهما. 
11-  وروى أيضا عن احمد بن جعفر القطيعي قال : سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال وهو شيخ الحنابلة في وقته يقول (ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر يعني الكاظم فتوسلت به إلا سهل الله لي ما أحب)([48][119]). 
12-  وقال الحافظ عبدالغني المقدسي: (خرج في عضدي شيء يشبه الدمل وكان يبرأ ثم يعود ودام بذلك زمانا طويلا فسافرت إلى أصبهان وعدت إلى بغداد وهو بهذه الصفة فمضيت إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه ومسحت به القبر فبرأ ولم يعد([49][120]). 
13-  وقد قال الإمام أحمد نفسه عندما ذكر أمامه صفوان بن سليم: (هذا رجل ينزل القطر من السماء بذكره)([50][121]). 
14-  وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه أن الإمام إبراهيم الحربي أحد أئمة الحديث قال(قبر معروف يعني الكرخي الترياق المجرب). 
وأن أبا عبدالله المحاملي أحد أئمة الحديث أيضا قال: اعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة وما قصده مهموم إلا فرج الله همه. 
وأخرج أن الإمام عبيد الله بن عبدالرحمن بن محمد الزهري قالك سمعت أي يقول: قبر معروف الكرخي مجرب لقضاء الحوائج ويقال: إن من قرأ عنده مائة مرة ﴿قل هو الله أحد﴾([51][122]) وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له حاجته.
15-  وأخرج أيضا أن أحمد بن العباس الشامي قال: ( خرجت من بغداد أريد الحج فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة فقال لي: من أين خرجت قلت من بغداد خرجت منها لما رأيت فيها من ا لفساد فخفت أن يخسف بأهلها قال: ارجع ولا تخف فإن فيها قبور أربعة من أولياء الله هم حصن لم من جميع البلايا قلت : من هم؟ قال: أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي وبشر الحافي ومنصور بن عمار فرجعت وزرت القبور)([52][123]) .
ومن لطائف القول أن بعض الحجاج كان يقبل حديدة حجر سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وآله وسلم فرآه بعض المسلمين هناك فقال لأحد العلماء حوله : (انظر إلى هذا المشرك يقبل حديدة الحجرة وهو حديد صنعناه بأيدينا لا ينفع ولا يضر فنظر اليه العالم فرأى على رأسه قلنسوة فقبله منها ثم قال له: ألم نصنع هذه القلنسوة بأيدينا؟