بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أسس الطريق إلى الله
أجمل الحق تعالى الغرض من الخلق في قوله:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
وأجمل الطريق إليه تعالى ومراحله والدعوة إليه وسبلها في قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ {31} نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ {32ْْ} وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {33} وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {35} وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {36})
بينما بيَّن أن هداه يصلنا باتباع أسوة وقدوة بقوله تعالى:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)
ويقول (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{31} قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {32})
نجد مما سبق أن هناك ثلاثة أسس رئيسية يُبنى عليها الطريق إلى الله.
الأساس الأول: معرفة الغرض من الخلق
حصر الله تعالى الغرض من خلق الإنس والجن في (إلا ليعبدون)، وهي تتضمن أمرين:
الأول: العبادة كفعل؛ وهي تعني الطاعة بحب. وهذه الآية كان سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقرأها (إلا ليعرفون) وكان يظن أنها هكذا أنزلت، فاتفق علماء التفسير أن العبادة هنا تعني المعرفة، فحيث أن العبادة كما ذكرنا آنفا تعني الطاعة بحب، فكيف بربك يطيع المخلوق بِحُرِّ إرادته واختياره من لا يحب؟ وكيف يحب من لا يعرف؟ فسبحانه وتعالى يعرفنا به وبصفاته وأسمائه وأفعاله من خلال ما ذكره في كتابه الحكيم، وورد على لسان نبيه ورسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ومن خلال ما أوجده حولنا من مخلوقاته، وما يورده ويجريه من أحداث.
الثاني: العبادة من حيث هي صفة للمخلوق؛ فتوضح الموقف الذي ينبغي أن يقفه المخلوق من ربه؛ وهو موقف العبد من سيده. فلو كانت هناك صفة أشرف من صفة العبد لوصف الله بها رسوله الخاتم في أعظم رحلة في تاريخ بني آدم، والتي أوقف فيه أشرف خلقه أعظم وأشرف موقف حين خاطبه الله فوق سبع سماوات في رحلة الإسراء والمعراج فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
لذلك إذا نظرنا لكل ما فرضه الله تعالى من فرائض، ونهى من نواهي، وأجرى من مقادير لوجدناها كلها تؤدي بالمخلوق لاتخاذ موقف واحد، موقف العبد، كأنه تعالى يطلب منه ويقول له:
ًكـن عــبـدا
الأساس الثاني: طريق تحقيق الغرض من الخلق: الطريق إلى الله
أجمل الله تعالى طريق تحقيق الغرض الذي خلقنا من أجله في قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)
فبعد معرفة السبب الذي خلقنا الله من أجله، تبدأ الخطوة الأولى وهي تحديد وجهة العبد في كل شيء وهي التوجه إلى الله، وجعل كل شيء يفعله العبد له، وكل شيء يطلبه العبد منه، وهذا قوله تعالى (َ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ). وهنا يطبق علم أصول الدين أو العقيدة لمعرفة من نقصد ونتوجه إليه بالعبادة والعبودية.
ثم جاء التفصيل في أمره لعبده الأمثل، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
لنعلم ما عليه حاله وهو يطبق (َ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ).
ثم بين الحق تعالى لنا أنه بعد تحديد الوجهة نأخذ السبيل المؤدي إلى التحقق بالغرض من الخلق فقال:
(ثُمَّ اسْتَقَامُوا)
ولقد بين تعالى أن هذه الاستقامة تتضمن جزئين في قوله:
(وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَه)
يتناول علم الفقه بأحكامه في العبادات والمعاملات، استنباطا من النصوص الشرعية وفقا لعلم أصول الفقه الحاكم على علم الفقه، ظاهر الإثم فقط، وهي أفعال فعل وترك بالجوارح، وهذا يدعونا للتساؤل: هل أن كل الإسلام محصور في أفعال الجوارح التي ينتج عنها ظاهر الإثم؟
عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا) قال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) قال: صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان قال (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) قال فأخبرني عن الساعة قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) قال: فأخبرني عن أماراتها، قال (أن تلد المرأة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال (يا عمر أتدري من السائل؟) قلت الله ورسوله أعلم قال (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.(
أخرجه: أحمد في مسنده، مسلم، أبو داوود، الترمذي، النسائي، ابن ماجة وابن جرير وابن خزيمة وأبو عوانة حب ق في الدلائل – كنز العمال.
حين ننظر لهذا الحديث نجد أن هناك ثلاثة مستويات في داخل الدين من خلال إجابات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسئلة سيدنا جبريل عليه السلام:
المستوى الأول: مستوى الإسلام؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)، هذه كلها أفعال جوارح فقط وهي تدخل داخل نطاق علم الفقه.
المستوى الثاني: مستوى الإيمان؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، حين نتفحص هذه الأعمال كلها نجدها من أعمال القلب ولا حكم لعلم الفقه على تاركها ما لم يجاهر بجوارحه بها فيكون العقاب في الفقه على فعل الجهر باللسان، وهو جارحة، حين ترجم فعل القلب من أفعال باطن الإثم.
المستوى الثالث: مستوى الإحسان؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذا من فعل السر الذي يكون متجها على الدوام إلى الله بلا أين وبلا كيف.
لا نجد على مر تاريخ الأمة من تناول النصف الخاص بترك باطن الإثم سوى مجموعة من المسلمين أطلق عليهم اسم "الصوفية"، فمن هم يا ترى؟ وما هو التصوف؟
الصوفية
اختلف في أصل هذه التسمية، فمن قائل أنهم سموا كذلك نسبة لبني صوفة الذين كانوا مسؤولين عن مشاعر الحج قبل الإسلام، بينما يقول آخرون أنهم اكتسبوا هذا الاسم من لبسهم للصوف لخشونته، وقائل يقول أنما أطلق عليهم هذا الاسم لصفاء قلوبهم ونقاوتها لسعيهم للتحقق بقوله تعالى (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم) وغير ذلك. إلا أنهم في الواقع من الناحية التنفيذية يمكن تعريفهم بأنهم القوم الذين يسعون للتحقق بالمستوى الثالث في الدين، وهو مستوى الإحسان، مرورا بالمستويين السابقين له.
وعلى هذا يمكن تعريف الصوفية بأنهم الساعون للتحقق بمستوى الإحسان
التصوف
يمكن تعريفه بأنه السعي للتحقق بمستوى الإحسان عن طريق جعل القلب قلبا سليما تحقيقا للغرض من الخلق "كـــن عــــبــدا".
وهذا الطريق للتحقق بالغرض من الخلق يبدأ من التحقق بمستوى الإسلام؛ من ضبط للشرع بترك ظاهر الإثم، ثم التحقق بمستوى الإيمان بعدها؛ وهو ضبط القلب بترك باطن الإثم الناجم عن صفات القلب الدنية مثل الشهوة والغضب والكبر والحرص والحسد والبخل والحقد.
فإذا تطهر القلب من الصفات الدنية وأصبح سليماً يكون قد سلم من الإنشغال بكل شيء سوى الله فيتحقق بالعبودية، ويتحقق فيه الغرض من الخلق "كن عبداً" وهذا هو المستوى الثالث؛ مستوى الإحسان.
وعلى هذا، يكون التصوف هو السعي للوصول إلى القمة في مستويات الدين فيما يمكن أن يتحقق به الخلق بعد مستويات الأنبياء والمرسلين، ويكون من صلب الإسلام وليس أمرا غريبا عليه كما يدعي البعض الذي لا يطيق أن يرى غيره موفقا من الله تعالى لفعل أمور لا يستطعها ويتكاسل عنها فيتجه لرفضها وإنكارها حسدا وكبرا.
وفي الحقيقة الوصول إلى المستويات الأعلى في أي أمر لا يكون للعموم، فعادة ما تجد أن المتفوقين في أي مجال يمثلون نسبة قليلة من أي مجتمع، وهذا ما أوضحه تعالى في كتابه، في سورة الواقعة، حين بين أن أهل اليمين في هذه الأمة كثير (لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ {38} ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ {39} وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) وبين أن السابقين المقربين قليل (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ {10} أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ {11}فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {12} ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ {13} وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِين)
أما عن تعدد الطرق الصوفية أو بمعنى أدق تعدد مناهج الوصول إلى تحقيق الغرض من الخلق، وادعاء البعض أن المنهج واحد وأن ما هم عليه هو الصواب وهو فقط منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، أما من هم سواهم فهم ليسوا على الجادة فهو قول باطل؛ فالحق تعالى يقول (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)
وأكد أن سبل تحقيق الغرض من الخلق عديدة وليست سبيلا واحدا فقط كما يدعون فيقول تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69})
وبين تعالى أن هناك منهجين أساسيين يصل بهما أهل الطريق فيقول (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13})
الأساس الثالث: ضرورة اتباع قدوة: مفهوم الشيخ في الإسلام
من نظام الله تعالى أن يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ويكونون قدوة لأتباعهم، فيقول تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {45} وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا {46} وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا {47})
ويقول تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)
نظام انتقال العلم في الإسلام من جيل لجيل من النظم الدقيقة حقا، فلا بد من أن يتعلم شخص العلم على شيخ، تعلمه واجازه فيه شيخ قبله، ويجيزه أنه صار عالما يصلح لنقل هذا العلم لمن بعده. وما نقل علم القراءات في القرآن من جيل لجيل تال شفاهة، وما علم اتصال سند الأحاديث، وما ضرورة إجازة العالم أو الشيخ لتلميذه ليكون صالحا لتعليم غيره في علوم الأصول أو الفقه إلا إقراراً بضرورة وجود الشيخ المعلم الذي ينقل العلم نقلاً متصلاً بسند يصل إلى صحابي ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلماذا ينكر بعض المنكرين اشتراط الصوفية وجود شيخ مربٍ ليعلم وينقل علمه لمن هم خلفه كما تعلمه هو بسند متصل وسلاسل صحيحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فمن هو الشيخ المربي؟
الشيوخ أنواع؛ فهناك شيوخ (أولياء) متخصصون في فروع كثيرة وموصولون. ولكن من منهم يصلح لأن يكون شيخا للمرء في الطريق إلى الله؟
معظمنا إن لم يكن كلنا يعرف أن سيدي أحمد بن أبي الحواري كان تلميذا للإمام أحمد بن حنبل في الفقه، إلا أن شيخه في الطريق إلى الله كان الشيخ أبو سليمان الداراني.
وسيدي عبد الوهاب الشعراني العالم الأزهري الجليل كان شيخه في الطريق إلى الله سيدي على الخواص الشيخ الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب.
فلا بد وأن الشيخ الدال على الطريق يكون فيه ميزة مختلفة عما يظنه كثير من الناس.
الشيخ الدال للمريد في الطريق إلى الله يسمى الشيخ المربي, وهذا تخصص خاص من الأولياء, فليس كل ولي يصلح لأن يكون شيخا مربيا مهما علا مقامه، لأن المحك هل هو مأذون من الله ورسوله بالتربية أم لا, يقول تعالى (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي).
نحن نعلم أن كثيرا من كبار الأولياء لم يكونوا شيوخ تربية رغم ما هم عليه من مقامات عالية, والبعض الآخر لم يرب إلا شيخا واحدا كسيدي عبد السلام بن بشيش ربى سيدي أبي الحسن الشاذلي فقط, والبعض ربى ألف ولي كسيدي أبي مدين الغوث.
الشيخ المربي في حقيقته إن هو إلا ممثل لرسول الله صلى الله عليه يستخدمه الله تعالى في تربية جيل تال مثلما استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية الصحابة.
سبحانه وتعالى غيب مطلق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لم يعاصره غيب أيضا غير ملموس، لذلك جعل الله تعالى الشيوخ المربين معاصرين لتلاميذهم وجعلهم نماذج محمدية يسهل التعلم منها والتدريب معهم على الطاعة بحب، فيسهل عليهم بعد ذلك الانتقال للطاعة بحب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو النموذج الأصلي الذي يتعين علينا اتباعه في حسن العبودية لله، والمريد يشرب منهج شيخه بمعايشته ورؤية تصرفاته وأفعاله وكيفية تصرفه في مختلف المواقف، فإن كان يحبه قلده في ذلك بل انطبع فيه سلوك هذا الشيخ، فإن كان سلوك ذلك الشيخ محمديا تحول هو أيضا بالتدريج ليكون محمديا فيسهل عليه تقليده صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعل ويتصرف ويقول، وهذا ليس إلا ما أراده الله منا في كتابه الكريم لأن خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن.
فمشكلة الإنسان أنه لايستطيع أن يتبع ويطيع إلا من يحب ما لم يكن مكرهاً، ولكن (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، وكيف يحب من لا يعرف؟ وكيف يعرف من لا يستطيع إدراكه بوضوح؟
يقول تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)
العلماء العالمون العاملون الصادقون المخلصون هم الذين تحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأنا أكره مساءته) أخرجه البخاري عن أبي هريرة وقال السيوطي صحيح.
فهذا هو طريق الولاية كما شرحه لنا الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
الدعوة إلى الله لها قواعد وضحها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيقول تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ولعلنا ننتبه إلى أن هذه الآية جاءت في الترتيب بعد قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ {31} نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ {32ْْ}) وهذا يوضح لنا أن مرحلة الدعوة إلى الله لا تأتي إلا بعد تحديد الوجهة ثم الاستقامة على الطريق كما أوضحنا من قبل وبعد ظهور ثمرة ذلك وهو ما يسمى بالبصيرة التي عبرت عنها الآيات بتنزل الملائكة وبشارتها لهم وهم في الحياة الدنيا، والآيات واضحة في ذلك ولا مجال لقصر مدلولها على لحظة الموت كما يدعي البعض هداهم الله وعافاهم من هوى النفس، فيقول تعالى (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)
ويقول تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
ويقول تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك)
ويؤيد ما نقول الحديث القدسي الذي أوردناه قبل قليل عن طريق الولاية.
وعلى هذا فالتصدي للدعوة أو للتربية بغير علم وبدون إذن مضيعة للنفس ومضيعة للغير، مثلها مثل التصدي للاستنباط من النصوص الشرعية بدون الحصول على إذن وإجازة بذلك من شيخ يعلم هل تحققت في تلميذه شروط المجتهد أم لا؟
هذه الأسس الثلاثة هي فيما نعلم والله تعالى أعلم هي الأساس الذي ينبغي معرفته لبناء سليم في الطريق إلى الله، والله تعالى هو الموفق المعين.
(إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب)