يذكر العلماء في كتب الحديث والسيرة قصة عتق أبي لهب لجاريته ثويبة لما اخبرته بولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن العباس بن عبدالمطلب رأى أبا لهب في النوم بعد وفاته فسأله عن حاله فقال: لم ألق خيرا بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة وإنه ليخفف علي في كل يوم اثنين أخرجه البخاري (5101) في النكاح والسهيلي في الروض الأنف (5/192) فتح الباري (1/124) .
قلت: هذا الخبر رواه جملة من أئمة الحديث والسير مثل الإمام عبدالرزاق الصنعاني والإمام البخاري والحافظ ابن حجر والحافظ البيهقي وابن هشام والسهيلي والحافظ البغوي وابن الديبع والأشخر والعامري وسأبين ذلك بالتفصيل:
فأما الإمام عبدالرزاق الصنعاني فقد رواه في المصنف (7/478) وأما الإمام البخاري فقد رواه في صحيه بإسناده إلى عروة بن الزبير مرسلا في كتاب النكاح باب﴿وأمهاتكم اللاتي ارضعنكم﴾ وأما ابن حجر فقد ذكره في الفتح وقال : إنه رواه الإسماعيلي من طريق الذهلي عن أبي اليمان ورواه عبدالزاق عن معمر وقال: وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة لكنه مخالف لظاهر القرآن قال الله تعالى : ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ وأجيب أولا بأن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به وعلى تقدير أن يكون موصولا فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به وثانيا على تقدير القبول فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مخصوصا من ذلك بدليل قصة أبي طالب أنه خفف عنه فنقل من الغمرات إلى الضحضاح وقال البيهقي : ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلص من النار ولا دخول الجنة ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات.
وأما عياض فقال: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض قلت: وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه؟ وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه، وقال ابن المنير في الحاشية: هنا قضيتان: أحدهما محال وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح وهذا مفقود من الكافر والثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلا من الله تعالى وهذا لا يحيله العقل فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبي طالب والمتبع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا.
قلت وتتمة هذا أن يقع التفضل المذكور إكراما لمن وقع من الكافر البر له ونحو ذلك والله أعلم. فتح الباري (9/145).
وأما الحافظ عبدالرحمن بن الديبع الشيباني صاحب الأصول فقد رواه في سيرته وقال معلقا: قلت: فتخفيف العذاب عنه إنما هو كرامة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما خفف عن أبي طالب لا لأجل العتق لقوله تعالى ﴿وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون﴾. حدائق الأنوار في السيرة (1/134).
وأما الحافظ البغوي فقد رواه في شرح السنة حدائق الأنوار في السيرة (1/134).
وأما العامري فقد رواه في بهجة المحافل وقال شارحه الأشخر قيل: هذا خاص به إكراما له صلى الله عليه وآله وسلم كما خفف عن أبي طالب بسببه وقيل لا مانع من تخفيف العذاب عن كل كافر عمل خير شرح البهجة (1/41).
وأما السهيلي فقد رواه في الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام وقال بعد نقل الخبر: فنفعه ذلك وهو في النار كما نفع أخاه أبا طالب أن هذا النفع إنما هو نقصان من العذاب وإلا فعمل الكافر كله محبط بلا خلاف أي لا يجده في ميزانه ، ولا يدخل به جنة. الروض الأنف (5/192)
وحاصل البحث أن هذه القصة مشهورة في كتب الأحاديث وفي كتب السير ونقلها حفاظ معتبرون معتمدون ويكفي في توثيقها كون البخاري نقلها في صحيحه المتفق على جلالته ومكانته وكل ما فيه من المسند صحيح الثبوت بلا خلاف حتى المعلقات والمرسلات فإنها لا تخرج عن دائرة المقبول ولا تصل إلى المردود وهذا يعرفه أهل العلم المشتغلون بالحديث والمصطلح .
ثم إن هذه المسألة من المناقب والفضائل والكرامات التي يذكرها العلماء في كتب الخصائص والسير ويتساهلون في نقلها ولا يشترطون فيها الصحيح بالمعنى المصطلح عليه ولو ذهبنا إلى اشتراط هذا الشرط لما أمكننا ذكر كثير من حوادث سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة وبعد البعثة مع أنك تجد كتب الحفاظ الذين عليهم العمدة وعلى صنيعهم المعول والذين منهم عرفنا ما يجوز ومالا يجوز ذكره من الحديث الضعيف نجد كتبهم مملوءة بالمقطوعات والمراسيل وما أخذ عن الكهان وأشبهاهم في خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن ذلك مما يجوز ذكره في هذا المقام.
أما قول من قال: إن هذا الخير يعارض قوله تعالى ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ فهذا قول مردود بما قاله العلماء ونقلناه عنهم سابقا وتحرير الكلام في هذا المقام هو أن الآية تدل على أن أعمال الكفار لا ينظر اليها وليس فيها أنهم سواء في العذاب وأنه لا يخفف عن بعضهم العذاب كما هو مقرر عند العلماء وكذالك الإجماع الذي حكاه عياض فإنه في عموم الكفار وليس فيه أن الله تعالى لا يخفف العذاب عن بعضهم لأجل عمل عملوه ولهذا جعل الله تعالى جهنم دركات والمنافقون في الدرك الأسفل منها.
ثم إن هذا الإجماع يرده النص الصحيح ولا يصح إجماع مع مخالفة النص كما هو معلوم للطلبة وذلك أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمه العباس حين سأله عن عمه أبي طالب وما هو جزاؤه إذ كان يحوطه ويغضب له فقال: إنه لفي ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب ذكر النار حديث (42).
فها هو أبو طالب قد نفعه دفاعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل ذلك من غمرات النار إلى ضحضاح منها .
فالتخفيف عن أبي لهب من هذا الباب أيضا لا منكر فيه والحديث يدل على أن الآية المذكورة فيمن لم يكن لهم عمل يوجب التخفيف وكذلك الإجماع وفي حديث أبي طالب المذكور دلالة على ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف الآن وقبل يوم القيامة في أمور الآخرة ويشفع لمن تعلق به ودافع عنه.
وأما قول من قال: إن هذا الخبر رؤيا منام لا يثبت بها حكم فإن هذا القائل هداه الله للصواب لا يفرق بين الأحكام الشرعية وغيرها أما الأحكام الشرعية فإن الخلاف واقع بين الفقهاء هل يجوز أخذ الأحكام وتصحيح الأخبار برؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام أم لا ؟
وأما غيرها فإن الاعتماد على الرؤيا في هذا الباب لا شيء فيه مطلقا وقد اعتمد عليها الحفاظ وذكروا ما جاء في رؤيا أهل الجاهلية قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذرة بظهوره وأنه سيقضي على الشرك وما هم عليه من فساد وكتب السنة مملوءة بهذا وفي مقدمتها كتاب دلائل النبوة وعدوها من الإرهاصات التي لا مانع من الاستدراك في شأنها بالرؤيا ولولا ذلك لما ذكروها.
فقول القائل في شأن رؤيا العباس: إنها ليست بحجة ولا يثبت بها حكم ولا خبر خروج عن عمل الأمة من الحفاظ وغيرهم والمراد به التهويل لا غير وما هكذا يكون شأن الباحث عن الحق والأمر لله.
وأما من قال: إن الرائي والمخبر هو العباس في حال الكفر والكفار لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم فإن هذا القول مردود لا رائحة للعلم فيه وهو باطل ذلك لأنه لم يقل أحد أن الرؤيا من باب الشهادات مطلقا وإنما هي بشارة لا غير فلا يشترط فيها دين ولا إيمان بل ذكر الله تعالى في القرآن معجزة يوسف عليه السلام عن رؤيا ملك مصر وهو وثني لا يعرف دينا سماويا مطلقا ومع ذلك جعل الله تعالى رؤيته المنامية من دلائل نبوة يوسف عليه السلام وفضله وقرنها بقصته ولو كان ذلك لا يدل على شيء لما ذكرها الله تعالى لأنها رؤيا مشرك وثني لا فائدة فيها لا في التأييد ولا في الإنكار.
ولهذا ذكر العلماء أن الكافر يرى الله تعالى في المنام ويرى في ذلك ما فيه إنذار له وتوبيخ وتقريع والعجب كل العجب من قول القائل: إن العباس رأى ذلك في حال كفره والكفار لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم فإن هذا القول يدل على عدم المعرفة بعلم الحديث إذ المقرر في المصطلح أن الصحابي أو غيره إذا تحمل الحديث في حال كفره ثم روى ذلك بعد إسلامه أخذ ذلك عنه وعمل به وانظر أمثلة ذلك في كتب المصطلح لتعرف بعد صاحب هذا عن العلم وإنما الهوى هو الذي حمل المعترض على الدخول فيما لا يتقنه الروح لابن القيم ص (144).