معنى مدد يا رسول الله
قال سيدي الإمام شيخ العشيرة المحمدية الشاذلية ، شيخنا وشيخ مشايخنا ، المحدث المفسر الفقيه المتكلم الصوفي السني السيد محمد زكي إبراهيم - رحمه الله - :
في معنى قولهم : مدد يا سيدي :
والقائل " مدد يا سيدي فلان " فهو : إما يطلب المدد من الحيّ ، أو من الميت ( مددا معنويا ) .
فطلب المدد من الحيّ معناه : طلب دعائه ، وإرشاده ، وروحانيته ، وتوجيهه ، وتربيته ، وبركة صلاحه وتقواه ، وسره مع الله ، وما هو من هذا السبيل .
وطلب المدد من الميت معناه : طلب التوسل به إلى الله ، والاستشفاع به إليه تعالى في قضاء الحوائج ، ودفع الجوائح ، والتماس بركة مقامه عند الله ، والاستمداد من مدد الله وسره " وللآخرة أكبر درجات وتفضيلا " .
وقد يحمل طلب المدد على معنى طلب الدعاء من الروح في عالم الطهر والنور ، وقد قرر ابن القيم في كتابه " الروح " أن للأرواح قوة وطاقة وقدرة لا يتصورها البشر ، حتى أن روحا واحدة عظيمة تؤثر في جيش كامل ، وإن كنا لا نميل إلى هذا الجانب ، إلا أننا نثبته ، تنزها عن تكفير المسلمين .
والتوسل إلى الله بصالحي الأحياء والموتى ، ليس معناه التوسل بالذات المشخصة من اللحم والدم والعظم والعصب ، وإنما هو التوجه إلى الله بالمعنى الطيب في الإنسان الطيب ، والمعنى الطيب ملازم للروح ، سواء تعلقت الروح بالجسد في الحياة ، أو تخلصت من الجسم بالموت ، واستقرت في برزخها على مقامها هناك ، " هم درجات عند الله " ، "ولكل درجات مما عملوا " ، " وما منا إلا له مقام معلوم " ، " أم نجعل المتقين كالفجار " ، " لهم ما يشاءون عند ربهم " ، " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " .
اما استشهاد بعضهم بآية " وما أنت بمسمع من في القبور " ، فالمراد الرفات ، وعلى كل فالجسم - أي اللحم والعظم - لا يسمع نداءه في الحيّ ولا الميت ، إنما الذي يسمع وبعقل هي الروح في الحيّ ، وهي التي تسمع وتعقل بعد الموت ، وترد سلام الزائر ، وتستأنس به .... إلخ .
ولهذه الطاقات والقوى والسيالات آثار إيجابية ، مُسلّم بها علما ودينا وتوجيها من الإنسان إلى إنسان ، أو منه إلى بعض الأكوان ، له ما له من التأثير العجيب عند أهل العلم والمعرفة والتجربة ، قديما وحديثا ، " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " .
ولنضرب مثلا بالحسد ، أو بالتنويم المغناطيسي ، وأثرهما محسوس مكرر مقرر ، في العلم والقانون والشريعة ، ويشهد لذلك ما نرى من قوة الشخصية وهيبتها ، وضعف الشخصية وتفاهتها ، وانعكاس هذا وذاك على الآخرين ، فهذا شيء من بعض معاني المدد عند المحققين ، ولا يقولن قائل ، عالم أو جاهل : إن هذا دعاء لغير الله ، أو طلب من سواه ، فطالب المدد : طالب خير من الله ، وملتمس منه مدده بوسيلة مشروعة ، وهو صاحب استشفاع مستحب ، كما أسلفنا ذلك .
توجيه ومزيد بيان :
وأساليب اللغة من حيث : المجاز ، والاستعارة ، والكناية ، والبلاغة ، في نحو الحذف وغيره ، ثمّ واقع الأمر في ذات طالب المدد ، كل ذلك يحمل عنه وزر الجهل والخطأ وحكم العادة ، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " كفوا عن أهل لا إله إلا الله ، لا تكفروهم بذنب ، ولا تخرجوهم من الإسلام بعمل " .
وبهذا ينضم الدين إلى الجاهل والمخطىء في التعبير بغير عمد ولا إصرار ، وعلى العالم أن يبصر الجاهل " ولكن ما تعمدت قلوبكم " .
وقد قررنا أن المتوسل والمستشفع وطالب المدد ، كلهم معترف بذنوبه ، مقر بعيوبه ، متجرد من حوله وقوته ، فهو لا يرى نفسه أهلا للمثول في الحضرة العلية ، بما عليه من الأوزار والأوضار ، وبخوفه حتى من أن تكون طاعته مدخولة مردودة ، فهو يرجو أن يتقبله الله ويغفر له بتجرد من ظلمة علمه وعمله ، ثم ببركة من يعتقد الخير فيه من أهل الله ، فهو كما يتوجه إلى الله بخوفه من نفسه يتوجه إليه تعالى برجائه في حبه لغيره ، وبهذا يجمع أطراف الخير جميعا .
وهكذا يبدأ المتوسل ( تذللا ، وتواضعا ، وانكسار ) من مقام الخوف من الله والفقر إليه ، إلى مقام الرجاء فيه والثقة به ، فانيا عن ذاته وجهده ، فيتردد بين فضلين ربانين : الخوف ، والرجاء ، لا يخطئه أحدهما بإذن الله .
والأعمال أولا وأخيرا بالنيات ، ولكل امرىء ما نوى ، والحديث النبوي يقول " ألا هلك المتنطعون " ، و " سددوا وقاربوا " ، و " يسروا ولا تعسروا " .
وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أين التقوى ؟ ، فأشار صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى صدره ( ثلاثا ) يقول : " التقوى ها هنا " . وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات ، فكيف بما دونها ؟! .
وقال العالم العامل السيد عبدالرحمن باعلوي مفتي أفند الديار الحضرمية ، نفع الله تعالى به البرية : مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء في حياتهم وبعد وفاتهم مباح شرعا كما وردت به السنة الصحيحة ، كحديث آدم عليه السلام حين عصى ، وحديث من اشتكى عينيه وأحاديث الشفاعة والذي تلقيناه عن مشايخنا وهم عن مشايخهم وهلم جرا ، أن ذلك جائز ثابت في أقطار البلاد وكفى بهم أسوة حسنة وهم الناقلون لنا الشريعة وما عرفنا إلا بتعليمهم لنا ، فلو قدرنا أن المتقدمين كفروا كما يزعمه هؤلاء الأغبياء ، لبطلت الشريعة المحمدية .
وقول الشخص المؤمن يا فلان عند وقوعه في شدة داخل في التوسل بالمدعو إلى الله تعالى ، وصرف النداء إليه مجاز لا حقيقة والمعنى يا فلان أتوسل بك إلى ربي أن يتقبل عثرتي أو يرد غائبي مثلا ، فالمتوسل في الحقيقة هو الله تعالى ، وإنما أطلق الاستغاثة بالنبي أو الولي مجازا والعلاقة بينهما إن قصد الشخص التوسل بنحو النبي صار كالسبب وإطلاقه على المسبب جائز شرعا وعرفا ، وارد في القرآن والسنة وهو مقرر في علم المعاني والبيان .
نعم ينبغي تنبيه العوام على ألفاظ تصدر منهم تدل على القدح في توحيدهم فيجب إرشادهم وإعلامهم بأن لا نافع ولا ضار إلا الله تعالى ، لا يملك غيره لنفسه ضرا ولا نفعا إلا بإرادة الله تعالى ، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " .
وعبارة الإمام الكردي رحمه الله : وأما التوسل بالأنبياء والصالحين فهو أمر محبوب ثابت في الأحاديث الصحيحة ، وقد أطبقوا على طلبه بل ثبت التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض فبالذوات أولى .
أما جعل الوسائط بين العبد بين ربه فإن كان يدعوهم كما يدعو الله تعالى في الأمور ويعتقد تأثيرهم في شيء من دون الله تعالى فهو كفر ، وإن كان مراده التوسل بهم إلى الله تعالى في قضاء مهماته مع اعتقاده أن الله هو النافع الضار المؤثر في الأمور ، فالظاهر عدم كفره وإن كان فعله قبيحا .
وسئل السيد عمر البصري رحمه الله عن قول الشخص شيء لله يا فلان ... الخ ، فأجاب : قول العامة يا فلان شيء لله غير عربية لكنها من مولدات أهل العرف ، ولم يحفظ لأحد من الأئمة نص صريح في النهي عنها ، وليس المراد بها في إطلاقهم شيئا يستدعي مفسدة الحرام أو المكروه لأنهم إنما يذكرونها استمدادا أو تعظيما لمن يحسنون فيه الظن . اهـ .
وفي الوهبانية وشرحها من كتب السادة الحنفية أن بعضهم قد قال يكفر من يقول شيء لله ووجه بأنه يوهم الاحتياج ، حيث طلب شيئا له تعالى وهو سبحانه غني عن كل شيء والكل مفتقر ومحتاج إليه .
قالوا وينبغي أن يرجح عدم التكفير ، فإن قائل ذلك يمكن أن يقول أردت أطلب شيئا إكراما لله تعالى ، قال سيد محققيهم السيد محمد عابدين رحمه الله بعد أن نقل نظير ما ذكر ، فينبغي أو يجب التباعد عن هذه العبارة .
وقد مر أن ما فيه خلاف يؤمر بالتوبة والاستغفار وتجديد النكاح ، لكن هذا إن كان لا يدري ما يقول ، إما إن قصد المعنى الصحيح فالظاهر أنه لا بأس به . انتهى بحروفه .
وقال العلامة خير الدين الرملي الحنفي في الفتاوى ، وأما قولهم يا شيخ عبدالقادر شيء لله ، فهو نداء وإذا أضيف شيء لله فما الموجب لحرمته ، ولا يجوز الاغترار بما في قيد الشرائع ونظم الفوائد ، ومن قال شيء لله يكفر ... إلخ . إذ لا وجه لذلك ، وكيف ذلك مع قولهم لا يخرج المؤمن من الإيمان إلا جحود ما أدخله وقولهم الكفر شيء عظيم ، فلا يكفر المسلم بما اختلف فيه ولو برواية ضعيفة ، ومعاذ الله أن يوجد الكفر بذلك إلى أن قال : وأما إنكار كرامات الأولياء على الإطلاق فالجواب ما قاله العلامة اللقاني في هداية المريد ، ومن يكذب بكرامات الأولياء فلا بحث معه ، لأنه مكذب بما أثبتته السنة . ا هـ .
قال الشيخ داود في كتابه صلح الأخوان بعد هذا ، ومعنى شيء لله على ما سمعت ممن يقولها من العوام يا أيها المنادي اعطني شيئا ، أي لأجله كما يقول السائل اعطني درهما لله ، أي كرامة له ، وما ذكره بعض الحنفية من التوجيه المكفر فقد أبعد فيه غاية البعد كما ذكره خيرالدين وغيره ، إذ لا يظهر من هذه الجملة إلا هذا المعنى والذي قاله البعض لا يفهم منها ، فضلا عن أن يكون مرادا . ا هـ .
وفي كتاب بغية المسترشدين السالف ذكره أيضا ما صورته مسألة من القواعد المجمع عليها عند أهل السنة أن من نطق بالشهادتين حكم بإسلامه وعصم دمه وماله ولم يكشف عن حاله ، ولا يسأل عن معنى ما تلفظ به .
ومنها أن الإيمان المنجي من الخلود في النار التصديق بالوحدانية والرسالة ، فمن مات معتقدا ذلك ولم يدر غيره من تفاصيل الدين فناج من الخلود .
وإن شعر بشيء من المجمع عليه وبلغه التواتر لزمه اعتقاده أن قدر على تعقله . ومنها من حكم بإيمانه لا يكفر إلا إذا تكلم أو اعتقد أو فعل ما فيه تكذيب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شيء مجمع عليه ضرورة وقدر على تعلقه ، أو نفي الاستسلام لله ورسوله كالاستخفاف به أو بالقرآن .
ومنها أن الجاهل والمخطىء من هذه الأمة لا يكفر بعد دخوله في الإسلام بما صدر منه من المكفرات حتى تتبين له الحجة التي يكفر جاحدها وهي التي لا تبقى له شبهة يعذر بها .
ومنها أن المسلم إذا صدر منه مكفر لا يعرف معناه أو يعرفه ودلت القرائن على عدم إرادته أو شك لا يكفر .
ومنها لا ينكر إلا ما أجمع عليه أو اعتقده الفاعل وعلم منه أنه معتقد حرمته حال فعله ، فمن عرف هذه القواعد كف لسانه عن تكفير المسلمين وأحسن الظن بهم وحمل أقوالهم وأفعالهم المحتملة على الفعل الحسن ، خصوصا الفعل الذي ثبت أن أهل العلم والصلاح والولاية كالقطب الحداد فعلوه وقالوه وفي كتبهم وأشعارهم دونوه ، فليعتقد أنه صواب لا شك فيه ولا ارتياب ، وأن جهله بدليله لقصوره وجهله لا لغلبة الحال على الولي وغيبة عقله وليسع العوام ما وسع ذلك العالم ، فمن علم ما ذكرناه وفهم ما إليه أشرنا وأراد حفظه عن سبيل الابتداع كف لسانه وقلمه عن كل من نطق بالشهادتين ولم يكفر أحدا من أهل القبلة ، ومن أراد الله غوايته أطلقه بذلك وطالع كتب من أغواه هواه ، نعوذ بالله من ذلك .