أولا : لماذا أحب الصحابة رسول الله ﷺ هذا الحب العظيم .
__________________________
ونرى مثل هذا الحب من أم معبد الخُزَاعِيَّةِ رضي الله عنها قبل إسلامها ، فإنه لما مَرَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ بركبه وفيه أبو بكر الصديق وابن أريقط وعامر بن فهيرة في رحلة الهجرة بِخَيْمَتَيْهَا فَسَأَلَاهَا : هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ : وَاَللهِ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَا أَعْوَزَكُمُ الْقِرَى ، وَالشَّاءُ عَازِبٌ . وَكَانَتْ مُسِنَّةً شَهْبَاءَ ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ فَقَالَ : "مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ؟" قَالَتْ : شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ . فَقَالَ : "هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ ؟" قَالَتْ : هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ . فَقَالَ : "أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا ؟" قَالَتْ : نَعَمْ بِأَبِي وَأُمِّي إنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْبًا فَاحْلُبْهَا . فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا وَسَمَّى اللهَ وَدَعَا فَتَفَاجَّتْ عَلَيْهِ وَدَرَّتْ ، فَدَعَا بِإِنَاءٍ لَهَا يُرْبِضُ الرَّهْطَ ، فَحَلَبَ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ الرَّغْوَةُ ، فَسَقَاهَا فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوَوْا ، ثُمَّ شَرِبَ ، وَحَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا حَتَّى مَلَأَ الْإِنَاءَ ، ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا فَارْتَحَلُوا ، فَقَلَّمَا لَبِثَتْ أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكْنَ هُزْلًا لَا نِقْيَ بِهِنَّ ، فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ عَجِبَ فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا وَالشَّاةُ عَازِبٌ ؟ وَلَا حَلُوبَةَ فِي الْبَيْتِ؟ فَقَالَتْ : لَا وَاَللهِ إِلّا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ ، كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ ، وَمِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا . قَالَ : وَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ صَاحِبَ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُهُ ، صِفِيهِ لِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ .
قَالَتْ : ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَبْلَجُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْخَلْقِ ، لَمْ تَعِبْهُ نُحْلَةٌ وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ ، وَسِيمٌ قَسِيمٌ ، فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ ، وَفِي صَوْتِهِ صَحَلٌ ، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ ، أَحْوَرُ ، أَكْحَلُ ، أَزَجُّ ، أَقْرَنُ ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ ، إِذَا صَمَتَ عَلَاهُ الْوَقَارُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ عَلَاهُ الْبَهَاءُ ، أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُمْ مِنْ بَعِيدٍ ، وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلَاهُ مِنْ قَرِيبٍ ، حُلْوُ الْمَنْطِقِ فَصْلٌ ، لَا نَزْرٌ وَلَا هَذْرٌ ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ ، رَبْعَةٌ لَا تُقْحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ وَلَا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ ، فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا ، وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا ، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ ، إِذَا قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ ، وَإِذَا أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ ، مَحْفُودٌ ، مَحْشُودٌ ، لَا عَابِسٌ وَلَا مُفْنِدٌ .
فَقَالَ أَبُو مَعْبَدٍ : وَاَللهِ هَذَا صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي ذَكَرُوا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرُوا ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبُهُ ، وَلَأَفْعَلَنَّ إنْ وَجَدْتُ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا .
فأم معبد رضي الله عنها تصف رجلا مسافرا في البادية مر عليها في ركب لم تلقه من قبل ولم تعرف من هو ، وما يخرج مثل هذا الوصف إلا من محب متيم .
___________
- معانى بعض الكلمات : أَعْوَزَكُمُ : عَدِمْتُمُ . كِسْرُ البَيْتِ : جَانِبُهُ أَوْ رُكْنُهُ . فَتَفَاجَّتْ : فَرَّقَتْ مَا بَيْنَ فَخِذَيْهَا لامْتِلاَءِ ضَرْعِهَا . يُرْبِضُ الرَّهْطَ : يُرْوِيهِمْ حَتَّى يُثْقِلَهُمْ فَيَنَامُوا . يَتَسَاوَكْنَ : يَتَمَايَلْنَ مِنَ الضَّعْفِ . نِقْيٌ : مُخٌّ أَوْ سِمَنٌ . الصَّعْلُ : الصَّغِيرُ الرَّأْسِ الطَّوِيلُ الْعُنُقِ الدَّقِيقَهُمَا . دَعَجٌ : شِدَّةُ سَوَادِ العَيْنِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهَا . وَطَفٌ : غَزَارَةٌ وَاسْتِرْخَاءٌ . صَحَلٌ : بَحَّةٌ أَوْ حِدَّةٌ . سَطَعٌ : طُولٌ. أَزَجُّ : دَقِيقُ شَعْرِ الحَاجِبَيْنِ مَعَ طُولِهِمَا . أَقْرَنُ : مَقْرُونُ الحَاجِبَيْنِ . لَا نَزْرٌ وَلَا هَذْرٌ : لاَ قِلَّةٌ وَلاَ سَخَفٌ . رَبْعَةٌ: مُتَوَسِّطُ الطُّولِ . مَحْفُودٌ : مَخْدُومٌ . مَحْشُودٌ : يَجْتَمِعُ النَّاسُ حَوَالَيْهِ . وَلَا مُفْنِدٌ : وَلاَ مُضْطَرِبٌ أَوْ مُهْتَزٌّ ، وَلاَ مُخْتَلِطٌ كَلاَمُهُ أَوْ مُسَفَّهٌ عَقْلُهُ
للدفاع عن التصوف والصوفية بالسودان