التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ما هى الكرامة

واعلم أن إطلاع أولياء الله على بعض الغيوب لا يحيله العقل وقد ورد به النقل. قال أبو بكر الصديق لعائشة رضي الله عنهما فى مرض موته وزوجته حامل: "إنما هما أخواك وأختاك، وبطن بنت خارجة أراها جارية" فأخبر بأن فى بطن امرأته جارية (أي أنثى) وكان كما قال رضي الله عنه.
وقول عمر رضي الله عنه "يا سارية الجبل" وسارية بأقصى العراق، فسمع سارية صوته وكان قد أطلعه الله على سارية وقد أحاط به العدو، فأمره بالإنحياز إلى الجبل، فإنحاز هو والجيش الذي كان معه فانتصروا وظفروا، وكان قد قال ذلك وهو فى أثناء خطبته على المنبر، فترك الخطبة وقال: يا سارية الجبل وعاد إلى خطبته .
وقول عثمان رضي الله عنه لداخل دخل عليه وكان قد نظر إلى محاسن إمرأة في الطريق: يدخل احدكم وآثار الزنا بادية فى وجهه.
وأما علي بن أبى طالب فقد جاء عنه في هذا الباب العجب العجاب حتى أنه أرجف بالكوفة أن معاوية قد مات، فقال علي رضي الله عنه إذ بلغه ذلك: والله ما مات ولن يموت حتى يملك ما تحت قدمي هاتين، وإنما أراد ابن هند أن يشيع ذلك حتى يستثير علمي فيه، فمن يومئذ كاتب أهل الكوفة معاوية وعلموا أن الأمر صائر إليه. وحكايات الأولياء فى كل عصر ومصر تتضمن ثبوت ذلك بما بلغ حد التواتر فلا يمكن جحده.
قال ابن عطاء الله: ثم أنا أدلك – رحمك الله – على أمر يسهل عليك التصديق بذلك، وهو أن إطلاع العبد المخصـوص على غيب من غيوب الله ليس بجثمانيته ولا وجود صورته، وإنما هو بنور الحق فيه، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
(اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)
فكيف يستغرب أن يطلع المؤمن على غيب من غيوب الله بعد أن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إنما ينظر بنور ربه لا بوجود نفسه. وكذلك قوله فى الحديث القدسي الصحيح:
"فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" - الحديث إلى آخره.
ومن كان الحق بصره فليس الإطلاع على الغيب بمستغرب فيه، وفي بعض طرق هذا الحديث: "فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً وقلباً وعقلاً ويداً ومؤيدا" .

فإن قلت: كيف تصنع بهذه الآية، وهو قوله سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) - (وهو ما استدل به كاتب المقالة) – قـال ابن عطاء الله: فلم يستثن إلا الرسول؟ قال:
فاعلم أنى سمعت شيخنا أبا العباس (المرسى) رضي الله عنه يقول: وفى معناه: أو صديق أو ولي.
فإن قلت: هذه زيادة على ما تضمنه الكتاب العزيز.
فإعلم أنه إذا قيل إن السلطان لم يأذن اليوم إلا للوزير وحده ربما دخل مماليك الوزير معه، وكان الإذن لمتبوعهم إذناً لهم، كذلك الولي إذا أطلعه الله على غيب من غيوبه فإنما ذلك لانطوائه في جاه النبوة وقيامه بصدق المتابعة، فما رأى ذلك بنفسه وإنما رآه بنور متبوعه.
وأيضاً إن الآية تشير إلى نفي إطلاع العباد على غيب الله إلا من أطلعه الله.
وبين سبحانه سبب إطلاعه من أطلعه على غيب من غيوبه وأن ذلك إنما كان لأنه مرتضى عنده بقوله (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى) .
وقوله (من رسول) خص الرسول بالذكر ولم يذكر النبى ولا الصديق ولا الولي وإن كان كل منهم ممن ارتضى، لأن الرسول أولى بذلك مما سواه.
انتهى الجزء المقصود نقله من كلام ابن عطاء الله السكندري.

ونشير لك إشارة إلى أمر معروف بين الناس سُلِّمَ به وهو الرؤيا المنامية، فإن الإنسان قد يطلعه الله فى المنام على وقائع تحدث بعدها، وهى غيب من الغيوب.
وقد أطلعنا القرآن الكريم على رؤية الملك فى أيام سيدنا يوسف، ولم يكن الملك مؤمناً، وأطلعه الله على أمور تحدث في أربعة عشر سنة مستقبلية. حقيقة أنها كانت بلغة لم يفهمها الرائي ولكن فهمها سيدنا يوسف، وكذا رؤية صاحبي السجن فهذا كشف للمستقبل وعلم بالغيب.
والذي يطلع على غيب ما فهل يحيط بجميع الغيبيات أم أنه يطلع على قبس من غيب يخصه أو نحو ذلك، والإحاطة بالغيوب كلها لا يكون إلا لله، فهو كمخيطٍ وضعته فى المحيط ثم أخرجته فماذا أخذ من المحيط؟!

ونقول لك إن الغيب أنواع، فمنها ما هو غيب زماني لسبق زمانه عن الزمن الحالي، وهذا كحكاية سيدنا عثمان بن عفان السابقة، أو غيب زماني لأن زمانه لم يأت، ومنها ما صح عن سيدنا أبى بكر الصديق وذكرناه سابقاً وما نقلناه عن سيدنا الإمام علي، وقد يكون غيباً مكانياً لاختلاف المكان، وهو ما نقلناه وصح في قصة سيدنا عمر بن الخطاب السابقة، ثم قد يكون غيباً ذاتياً كإطلاع الولي على بعض الأسماء الإلهية التي لم تكشف لغيره، ويدل عليها ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:
"أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"
فقوله: "أو علمته أحداً من خلقك" دليل على ما ذكرنا.

ثم هناك الغيب المحض، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "أو استأثرت به فى علم الغيب عندك" فهذا وما نحوه من الأسماء والصفات الإلهية التي استأثر الله بها فهي غيب محض لا ســبيل لمعرفته إذ لا يعرف الله إلا الله، وما تعرفنا إليه سبحانه إلا بقدر ما تعرف إلينا بما نتحمل من تجلياته علينا.
فإذا كان الله يطلــع الولي على أمور من غيب ذاته، فأمور غيب الزمان والمكان لا تقاس بذلك.
ثم هناك نوع آخر من الغيب وهو غيب الغيب، فإن الله قال عن العبد الصالح آصف بن برخيا الذى أتى بعرش بلقيس لسيدنا سليمان قبل أن يرتد إليه طرفه:
(قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك).
فأشار إلى أنه عنده علم من الكتاب، وقد يكون المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فقد ورد فى بعض التفاسير إشارة إلى أنه كتاب المقادير. فإن كان الغيب هو ما خُطَّ فى اللوح المحفوظ، فهناك غيب لم يدون فيه بدليل قوله تعالى:
(يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)
فما أُثبت في أم الكتاب بعد المحو كان غيباً قبل ذلك لم يطلع عليه أحد إلا الله، وهذا هو غيب الغيب، ولذلك إذا كشف الله لعبد من عباده عن غيب من المغيبات المخطوطة في أم الكتاب فإن هذا العبد لا يركن إلى ذلك، ولا يأمن مكر الله لوجود المحو والإثبات ولذا يقول الصديق الأكبر أبو بكر (لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة).

ثانياً:
يقول كاتب المقالة المذكورة أن كل أئمة السنة يقرون الكرامات ويثبتونها ثم نراه يثبت ذلك نظرياً وينكره فعلياً، وقد أشار إلى ذلك سيدي ابن عطاء الله من كلامه على أحوال الناس في مسألة الكرامات فيقول:
وفرقة أخرى يصدقون بأن في مملكة الله أولياء لهم كرامات من غير أن يسلموا ذلك لأحد من أهل زمانهم معيناً، فكل من ذكر لهم أنه ولي أو نسبت إليه كرامة دافعوا إثبات ذلك بمقاييس اقتضتها عقولهم المعقولة بعقال الغفلة المخدوعة بمتابعة الهوى، فلن يجرى عليهم هذا التصديق وجود الاقتداء ولا اشراق نور الاهتداء، إذ الاقتداء لا يكون بولي مجهول العين في كون الله، بل الإقتداء إنما يكون بولي دلك الله عليه وأطلعك على ما أودعه من الخصوصية لديه، فطوى عنك شهود بشريته في وجود خصوصيته، فألقيت إليه القياد فسلك بك سبيل الرشاد، يعرفك برعونات نفسك وكمائنها ودفائنها، ويدلك على الجمع على الله، ويعلمك الفرار عما سوى الله، ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله، ويوقفك على إساءة نفسك، ويعرفك بإحسان الله إليك، فيفيدك معرفة إساءة نفسك الهرب منها وعدم الركون إليها، ويفيدك العلم بإحسان الله إليك الإقبال عليه، والقيام بالشكر إليه، والدوام على مر الساعات بين يديه.

ثالثا:الكلام على خوارق العادات يقتدى تقسيمها إلى ما قسمه العلماء إلى ستة أقسام:
فإن كان خرق العادة من نبي فهو معجزة.
وإن كان من نبي قبل وصف النبوة فهو الإرهاص.
وإن كان من ولي فإنه الكرامة.
وإن كان من بعض العوام فهو المعونة وهو فيض كرم من الله لهذا العامي بشفاءه من داء عضال لا شفاء منه ونحو ذلك.
وإن كان من فاسق ووافق مراده فهو الاستدراج.
أما إن خالف مراده (الفاسق) وجاء خرق العادة عكس ما أراد فهو الإهانة.
وزاد بعضهم السحر، وقيل إنه ليس من الخوارق لأنه معتاد عند تعاطى أسبابه.

رابعاً:
ما هي الكرامة؟
قال العلماء: هي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة لها يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبي كلف بشريعته مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح علم بها أو لم يعلم.

خامساً:
جاء بالمقالة المذكورة كلاماً عن الولي فيه تعميم وإسقاط للتخصيص، فمن هو الولي؟
يقول العلماء: الولي هو العارف بالله تعالى وبصفاته حسب الإمكان المواظب على الطاعات المجتنب للمعاصي المعرض عن الإنهماك في اللذات والشهوات المباحة، فهو من تولى الله سبحانه وتعالى أمره فلم يكله إلى نفسه ولا إلى غيره لحظة، أو الذي يتولى عبادة الله تعالى وطاعته، فعباداته تجرى على التوالى من غير أن يتخللها عصيان. وكلا المعنيين واجب تحققه حتى يكون الولي ولياً فى نفس الأمر.
أما ما جاء فى المقالة فهو كلام على الولاية العامة، ونحن هنا بصدد الكلام عن الولاية الخاصة التى تعلوها مرتبة الصديقية، وعليه فالمتصف بهذه الصفات قد يكون أعلى مقاماً من الشهيد الذى مات في ميدان القتال مرة واحدة، وأما من نحن بصدده فقد قتل نفسه عن الشهوات والمعاصي واللذات مرات ومرات.

وقد يكون الشهيد ولياً أو صديقاً ومن ذلك الأئمة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب فإنهم جمعوا بين الولاية والصديقية والشهادة رضي الله عنهم أجمعين.

ثم إن الشهداء مراتب ومنازل، فهل يستوي الشهيد الذي لم يكن له عبادات متميزة وربما كان تاركاً للفرائض ثم نال مرتبة الشهادة بطعنة لم تستغرق آلامها سوى دقائق بمن هو أمضى حياته في محاربة الشهوات والنفس وأبلى في الدين وفي الدنيا بلاءً حسناً مثل ساداتنا الصديقين عمر وعثمان وعلي

تعليقات